عن الحرب التي أبادت شباب أوروبا!.. يكتب خليل حيدر

زاوية الكتاب

كتب 669 مشاهدات 0


الوطن

أفكار وأضواء  /  الحرب التي أبادت.. شباب أوروبا

خليل علي حيدر

 

عاشت أوروبا اخر لحظات القرن التاسع عشر سياسيا وحضاريا مع يوم 28 يونيو - حزيران 1914، عندما تم اغتيال ولي عهد الامبراطورية النمساوية على يد احد متطرفي الصرب. فقد اطلق هذا الحدث سلسلة من الاحداث والكوارث على امتداد اوروبا وآسيا والعالم العربي، تمثلت في محن الحرب العالمية الاولى 1918-1914، التي غيرت الى الابد تاريخ وجغرافيا الكثير من الامم والبلدان، وادت الى سقوط اسر حاكمة وامبراطوريات، وظهور دول وانظمة جديدة كل الجدة على التاريخ الاوروبي خاصة، كالاتحاد السوفيتي! انزلت الحرب دمارا واسعا بالكثير من المدن والمناطق والآثار الاوروبية من منازل وقصور وكنائس، ولقي فيها ملايين الاوروبيين من عسكريين ومدنيين حتفهم.
فقد التقى الجيشان الالماني والفرنسي في معركة فردان Verdun على امتداد اشهر ابتداء من فبراير 1916 وعندما انجلى دخان البنادق والمدافع والقنابل، كانت خسائر الطرفين من القتلى متساوية، اذ خسر كل منهما 400 الف رجل، قرابة المليون انسان للطرفين!
لا نكاد نصدق اليوم كيف كانت بداية تلك الحرب. فما ان انتشر خبر اغتيال ولي عهد النمسا يوم 28 يونيو 1914، حيث عرف ان «منظمة اليد السوداء» الصربية هي التي سلحت القاتل ومن معه، حتى توالت التطورات: اعلنت حكومة النمسا والمجر الحرب على صربيا حليفة روسيا. وقررت الامبراطورية القيصرية الروسية نجدة وحماية «الصرب» مهما كان الثمن، وهو موقف روسي رأيناه يتكرر حتى في احداث حرب البوسنة في نهاية القرن العشرين. ولهذا قررت روسيا اعلان التعبئة العامة لردع النمسا. فوجدت امبراطورية ألمانيا نفسها مجبرة على دعم امبراطورية النمسا والمجر، وان كانت تدرك ان مساندة النمسا ضد روسيا سيخلق ازمة عسكرية مع فرنسا. وكانت المانيا تعرف استراتيجيا انها لابد من ان تهزم فرنسا اولا قبل ان تتفرغ لدحر روسيا، كي تتجنب الحرب على جبهتين. ولهذا اعلنت الحرب على روسيا ثم على فرنسا بعد يومين، وبادرت الى اكتساح بلجيكا المحايدة، فاضطرت بريطانيا، التي كانت يربطها ببلجيكا التزام دفاعي منذ اتفاقية لندن 1840، الى اعلان الحرب على المانيا.
وتتابعت اعلانات الحرب الاخرى: من «الجبل الاسود» ضد النمسا، ومن صربيا ضد المانيا، ومن امبراطورية النمسا والمجر ضد روسيا، والجبل الاسود على المانيا.. وهكذا اشتعلت جبهات اوروبا كلها.
يصف استاذ التاريخ الاوروبي الحديث «فريتز ستيرن» Stern لحظة الانفجار المشحونة ثقة وفخرا ووطنية فيقول: «بأي براءة واي حماس استجاب اوروبيو 1914 لناقوس الخطر! لم يتصور احد منهم حتى الملامح العامة للكارثة القادمة، ورحب معظم الناس بالحرب كمخاض وطني عظيم. فبعد عقد من الازمات المتفاقمة وسباق التسلح المحموم، آن الاوان لان يتوقعوا المنازلة النهائية. الا انهم، بعد عقود من السلم الممتد، كانوا قد نسوا مآسي الحروب، ولم تكن الا في بصائر القلة حقيقة ان الحرب الحديثة ستضاعف اهوال الازمات السابقة».
وسط كل هذا الحماس الوطني والافكار المغلوطة عما ستجلبه هذه الحرب القادمة، بين المؤرخ «زحف الاوروبيون نحو الصدام بما يشبه الابتهاج، غارقين في مشاعرهم الحماسية، واثقين بعدالة قضيتهم، متأكدين من قرب النصر والظفر. فكانت هذه هي المرة الاخيرة التي تنال فيها الحرب في حضارتنا، التحية والترحاب».
The columbia history of the world, ed: john A.Garraty and peter Gay. Harper & Row publishers, N.y.1987, p-.981.
كانت فكرة الحرب الخاطفة قد اختمرت طويلا في اذهان جنرالات القيادة الالمانية. وكانوا يخططون لاحتلال العاصمة الفرنسية من الغرب عبر بلجيكا التي باتت في قبضة الجيش الالماني، وانهاء قدرة فرنسا في المقاومة خلال اسابيع. وفي سبتمبر 1914 كان الالمان على مقربة من باريس لولا تعجلهم الذي سمح للفرنسيين والانجليز خوض «معركة المارن» الاولى، التي اوقفت مسيرة الالمان. غير ان زهرة شباب اوروبا تم سحقه في هذه المجابهة وما تلاها.
فقد تساوت كفتا القتال شرقا وغربا، وحفرت الخنادق من القنال الانجليزية حتى جبال الالب، وتوالت مآسي هذه الحرب حتى عام 1918، اكثر من اربع سنوات دامية مروعة.
ولم تقتصر الحرب العالمية الاولى كما ذكرنا على المسرح الاوروبي وحده، بل كانت لها افرع، وبخاصة الحرب بين بريطانيا والاتراك العثمانيين في الجزيرة العربية والحجاز وبلاد الشام والعراق، والتي انتهت كما هو معروف بهزيمة الجيوش العثمانية، وانسحابها من البلدان العربية.
اشتهرت الحرب العالمية الاولى بالتحصن داخل الخنادق والمتاريس، وتبادل الهجوم بين الطرفين المتقابلين. وهكذا طال امد الحرب وانزل كل طرف بالآخر خسائر بشرية فادحة. ولكن الانهاك والبرد والمطر وانهيار المعنويات من جانب، واستخدام الدبابات للمرة الاولى في هذه الحرب وبخاصة ضد الالمان، واشتراك الجيوش الامريكية التي كانت تتدفق بمعدل ربع مليون جندي كل شهر، عجلت بنهايتها.
كانت الخسائرالبشرية ما بين 13-10 مليون انسان، وبلغت تكاليفها نحو 350 مليار دولار، اخذين في الاعتبار قيمة الدولار عام 1918.
نجم عن الحرب كذلك تخلف مكانة اوروبا الاقتصادية في المنافسة التي تلت الحرب، وحرمان القارة من السواعد الشابة التي اشتدت اليها الحاجة لقيادتها. فقد كان بين القتلى مثلا نحو %20 من طلبة جامعة اكسفورد البريطانية، ونحو 143 من 346 طالبا من جامعة Ecole Normale Superieure الفرنسية.
ومن عاد سالما منهم ومن مدرسيهم كانوا طلابا واساتذة مختلفين كل الاختلاف عن الذين استقبلوا الحرب عام 1914 بحماس، او جندوا في صفوفها فيما بعد.
خلفت الحرب نحو عشرين مليون جريحا، وعانت مساحات زراعية هائلة من فرنسا من دمار التربة ما جعلها غير صالحة للاستفادة وكانت مدن مثل برلين وفيينا وحواضر اخرى قد عانت بسبب الحصار والحرب مجاعات واهوالا لا توصف. وعمت مدن ومناطق شرق اوروبا الامراض والاوبئة التي كانت تحصد الملايين، كالانفلونزا والتيفوئيد والكوليرا، فيما كانت الثورات والانتفاضات تهدد الانظمة القائمة، وبخاصة بعد نجاح ثورة فبراير الروسية عام 1917. (انظر: Contemporary Europ, H.Stuart Hughes, Prentice. Hall. Inc, New Jersey. 1981, P.76-77) مست الحرب في الحقيقة شغاف قلب اوروبا وحضارتها، فتغيرت نظرة الناس نحو الافكار والمبادئ والشعارات، كما تبدلت مواقفهم وبعض قيمهم الاخلاقية من الاساس. هذه الحرب، كتب مؤرخ كان محاربا في صفوف جيوشها، كوت عقول وشخصية جيل كامل.
ويضيف هذا المؤرخ الانجليزي والمحارب السابق عن تجربته في حرب الخنادق، ان الحرب كانت للكثير اكتشافا للقسوة، وربما توقا للعنف المنبعث من داخل ذواتهم، والتي عجزت قيم التربية واللطافة المكبوتة، والتي كانت تمثل ثقافة ما قبل 1914، ان تحد من ممارستهم له: «معظم الناس في اعتقادي داخلهم انسان بدائي متوحش من العصور الحجرية.. هذا ما في داخلي انا على الاقل». (The Columbia History, P.992).
جلبت أسوأ كوارث اوروبا رغم ذلك بعض الامل وساهمت في تحسين حياة البعض. فقد عجلت الحرب في تعميق الحقوق الديموقراطية والمساواة في ممارستها، وهيأت فرصا افضل للاقليات التي عانت طويلا. فمع انتهاء الحرب نالت القوميات التي عانت من الحرمان فترات طويلة حقوقها. وبرهنت المرأة خلال اقسى الظروف ان عطاءها ليس اقل من الرجل ولهذا لا ينبغي كذلك ان تقل حقوقها عنه. كما افسح المجال لاندماج الاقليات الدينية في المجتمعات الاوروبية، وتراجعت الاشكال المعهودة من التعصب والانحياز لبعض الوقت. ونال اليهود في اوروبا الوسطى، حيث برزت الحاجة الى مجهوداتهم، حقوقا اوسع. وتعاملت المجتمعات الغربية بتقبل اكبر مع النقابات والاتحادات العمالية فباتت جزءا من الحياة السياسية، مما حسن من ظروف العمل واتاح لتوقعاتهم في تحسين ظروف المعيشة والعمل كل الفرص (المرجع نفسه، ص993).
كتب الكثير عن هذه الحرب الطاحنة العظمى التي نقلت الكثيرين من عصر الى عصر، وعانى في اتونها الملايين، حتى ظن الكثيرون آنذاك ان البشرية لن تدخل حربا مثلها بعد ذلك، غير انهم كانوا في الواقع على مبعدة نحو عشرين عاما من الحرب العالمية الثانية.
ظهرت كتب كثيرة منذ نهاية الحرب العالمية الاولى عن دروسها وعبرها. ويعرض مقال في «الحياة» بعض اهمها في رأي الكاتب وليد محمود عبدالناصر.
الأول ان دولا متقاربة في ايديولوجيتها ونظمها القيمية ومرجعياتها.. قد تتحارب. والثاني ان الحروب التي تنشأ بحجة حل مشكلات وتسوية صراعات، تؤدي الى المزيد من المشكلات والنزاعات، وغالبا ما تقود الى صراعات اكثر اتساعا وتعقيدا. والثالث ان عالم ما بعد هذه الحرب، «يكون اسيرا، في جزء كبير منه، لنتائج تلك الحرب». (2014/5/20).
في الاول من مارس 2011، ذكرت الصحف ان «فرانك باكلز»، الذي يعتقد انه اخر الجنود الامريكيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الاولى، قد توفي يوم امس عن 110 اعوام، في مزرعته بغرب فرجينيا. وكان «باكلز» قد كذب بشأن سنه لينضم الى الجيش عندما كان يبلغ من العمر 16 عاما، وكان بين نحو خمسة ملايين امريكي شاركوا في الحرب العالمية الاولى ما بين 1918-1914. ونقل عنه قوله في السنوات الاخيرة: «كنت اعلم ان محاربا واحدا سيبقى على قيد الحياة فترة، لكن لم اتوقع ان اكون انا».
واضافت صحيفة «الجريدة» ان باكلز قاد سيارة اسعاف خلال الحرب، وفي عام 1941 حين كان يمارس عملا مدنيا في «مانيلا» بالفلبين، القت القوات اليابانية الغازية القبض عليه واسرته 38 شهرا ابان الحرب العالمية الثانية.
وذكرت المصادر انه بوفاة باكلز لم يتبق على قيد الحياة سوى استرالي عمره 109 اعوام وبريطانية تبلغ من العمر 110 اعوام، كانا من بين 65 مليون شخص يعتقد انهم شاركوا في الحرب بين عامي 1918-1914.

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك