هلُمَّ نحبّ الحياة - بقلم نسيبة القصار

زاوية الكتاب

كتب 2860 مشاهدات 0


الطفلة التي تطلّ من نافذة سيارةٍ مسرعة، لتلوّح بيديها على لا أحد، وتقول بصوت مبتسم: صباح الخير، هذه طفلةٌ تصبّح على العالم..، وذاك الرجل النادر الذي يلفتُه الطائر الواقف على عمود إنارةٍ في شارعٍ ما، ليستشعر فقط كما لو أن الطائر يفكّر بالناس ويعلّمهم بسكونِه: أن الحياة لا تؤخذ على عجل..، وتلك الفتاة التي ما إن ترى سرب حمام يسبح في السماء، يوحي لها أنه يحثّها على أن تركض في الأيام ركضاً مولعًا بألا يفوتها التلذذ بجمال كل شيء في الطريق..، كلهم بلا استثناء أتاحوا لعينهم أن تُبصر موسيقى الأصوات، ولآذانهم أن تسمع جمال الأشياء، هم فقط فتحوا دواليب قلوبهم وجعلوها تتحسس الحياة في كل شيء.

ألِفنا أن يكون معنى الإلهام: 'ما يُلقى في النّفس من صورٍ وأفكار ومعانٍ تطمئن إليها النّفس'، صحيحٌ هو يُلقى في النّفس، لكني أراه يزور فقط مَن يفتح له أوراق الوردة التي بداخله.. كما لو أنها آذان تسمع ما وراء الكلام، أو كما لو أنها عينٌ، بؤبؤها في القلب ترى بواطن الأمور وتعيها، فأوراق الوردة التي بداخلنا ما هي إلا قرون استشعار تتلمس كل ما من شأنه أن يعطي للكون الذي نراه معنًى ومغزى، أي إننا لا نُلهَم إلا إذا استعدّينا لذلك. وأن أختار عيشَ الإلهام، يعني أنني بدلاً من أن أعتبر الفراشة التي تحوم حول أنفي فراشة متطفّلة، سأراها ضربًا من ضروب الجمال، وربما سيجعلني تحليقها أفكّر لماذا أتت؟ ما الذي تريد أن تقوله لي؟ أو بصورة أعمق ماذا سيقول الله لي من خلالها؟ وكيف رسم الله جناحيها بهذا الفن لونًا لونًا؟!

إن الإلهام يُحدثُ صخبًا في النّفس، لكنه صخبٌ محمود، يزرع فينا قلقاً يجعلنا نتساءل، نفكر ونسبر المعاني. صحيح أنه يحوي صخبًا وقلقًا لكنه بعد ذلك يكون بصيرة، تهدينا وتقودنا إلى الله في كل شيء، ومما أحب أن أذكره أن هذا المعنى لم أفكر به وحدي بل ألهمني إياه شخص قريب ملهم، حين ربطه بالآية: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحق} ، أليست 'الحياة سر من أسرار الله' كما يقول العقاد، إذًا فلنكن رحالةً فيها، نحمل على عاتقنا اكتشافها ومعرفة الله في أنفسنا وفي كل شيء حولنا، إن كلّ ما نحتاجه هو أن نُفسح للدهشة أن تستوطننا، مثلما نُفسح للهواء أن يتسلل إلى رئتيْنا كل حين.

فلو دعاني الإلهام أن أذرف دمعةً لأن شجرةً معمرة في بيتنا قُطعت فسأذرف الدمع، لأن الإلهام أن نتفاعل مع كل ما في الحياة، نهبُه من روحنا فيهبُنا بعضًا من معانيه. وكما تقول وفاء الجاسم: 'وكأن نبضك الشغوف وحده فرصة لإعادة ترميم بعض خراب العالم' إننا بهذه الطريقة 'ندرب أنفسنا على الانشغال بحب الحياة' كما يقول محمود درويش، فإن نمط حياتنا السريع والمربك هو ألد أعداء الإلهام والتجديد، فالحياة مملة رتيبة إن عشناها فقط بروتينها اليومي دون أن نغمرها بالاكتشاف وسبر الأعماق. والإلهام لا يتيح لنا فقط أن نبحث عن كنوز الكون بل أن نستمتع في رحلة البحث متناغمين مع جمال الكون، وإلا فسنكون على حافة الموت ونحن أحياء.

إن الألف الشديدة المكسورة التي توحي وكأن بابًا قد فُتح، وتعقبها اللام التي بلينها تؤذن لنا بالتسلل والدخول، ثم الهاء الواسعة الممتدة بألف المد، التى تنادينا من عمقها لنغوص وننهل منها، وأخيرًا مسك الختام الميم هذا الحرف الذي وكأنه يضم ويحضن كل كنز قد نُهل ويتشرّبه فيعطيه..، كل هذه الأحرف المجتمعة بمعانيها، هي الكلمة التي نحتاجها لأن نعيش الحياة بحب، كلمة: إلهام.

نسيبة بدر القصار
كلية الآداب - لغة عربية

الآن - رأي / نسيبة القصار

تعليقات

اكتب تعليقك