رأي العرب القدامى في زواج الأقارب.. بقلم عبدالله غليس

زاوية الكتاب

كتب 7848 مشاهدات 0


 

يدعو الطب الحديث إلى الابتعاد عن الزواج من الأقارب، وتحذّر منه كثير من الدراسات لما قد يسببه من أمراض وراثية كثيرة للأطفال قد تصل إلى الإعاقة وتشوّه الخلقة.. والمفاجأة أن العرب القدامى سبقوا العلم الحديث في دعوته هذه، وأيقنوا بحنكتهم وتجاربهم أن الرجل الذي يتقارب نسبُ أبويه يأتي مهزولا ضعيفا، لذلك حذّروا منه فقالوا: 'اغتربوا لا تضووا' أي تزوجوا من الغرائب كي لا يأتي أبناؤكم ضاوين، والضاوي: ضعيف البُنْيَة ضئيل الجسم. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى قوما من العرب يقال لهم 'بنو السائب' فلمحَ فيهم القصر وقلة الأجسام فقال: 'يا بني السائب، إنكم قد أضويتم، فانكحوا في النزائع'.

يقصد بالنزائع الغرباء. ويُروى أن العتبي قال: 'تزوجَ أهلُ بيتٍ بعضهم في بعض، فلما بلغوا البطن الرابع بلغ بهم الضعف إلى أن كانوا يَحْبُون على الأرض حبوا لا يستطيعون القيام ضعفا'! وهذه القصة ومثلها جعلت الدعوة إلى الزواج من الأباعد مضرب مثل عند العرب؛ فمن أمثالهم التي أوردها الميداني في [مجمع الأمثال]: 'النزائعَ لا القرائب'، وقالوا: 'الغرائب لا القرائب'. ويروي الأصمعي قول أحد العرب: 'بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضَربَ رؤوسَ الأبطالِ كابن الأعجمية'. يقصد أنه كلما ابتعدَ عرقُ الزوج من عرق زوجته كان أبناؤهم أصح وأنجب؛ والنَّجيب هو الذكي الفطِن الذي يفوق أقرانه في الفضل والسمعة الحسنة. وقد أكثرَ شعراءُ العربِ في مدح ابن المرأة البعيدة، ومن ذلك قول جرير الشاعر الأموي في ابنه بلال:

 إن بلالاً لم تشنه أمه .. لم يتناسب خاله وعمه
وكانت أم بلال هذا من بني شيبان، وله:

نمَتْ بي من شيبان أمٌ نزيعةٌ .. كذلك ضرب المنجبات النزائع

وقال أعربيٌّ يمدح ابنه:

تنجّبتها للنسل وهي غريبةٌ .. فجاءت به كالبدر خرقا معمما
فلو شاتمَ الفتيان في الحيِّ ظالما .. لما وجدوا غير التكذّب مشتما
والمعمم عندهم السيّد يلجؤون إليه في النوازل. وقال آخر:

فتىً لم تلده بنتُ عمٍ قريبةٌ .. فيضوي وقد يضوي سليل القرائبِ
ولكنما أدته بنت محجب .. عظيم الرواق من خيار المرازب
تعلم من أعمامه البأس والندى .. وورّثه الأخوالُ حسنَ التجارب
هو ابنُ غريبات النساء وإنّما .. ذَوو الشأنِ أبناءُ النساءِ الغرائبِ
وقال الأسدي:

ولستُ بضاويٍّ تموج عظامه .. ولادته في خالد بعد خالد
تقارب من آبائه أمهاتُهُ .. إلى نسبٍ أدنى من الشبر واحد
وفي أخواتٍ أنكحوهنّ أخوة .. مشاغرة فالحي للحي والد
وقال آخر:
تجنّبتُ بنتَ العمِ وهي حبيبةٌ .. مخافة أن يضوي علي سليلي
ويروي أبو العلاء المعري في [الفصول والغايات] قول الشاعر:

أنذر من كان بعيد الهم .. تزويج أولاد بنات العم
ليس بناج من ضوى أو سقم .. يأبى وإن أطعمته لا ينمي

يقول إن ابن بنت العم لن يَسلَم من إحدى علتين: إما السقم والمرض، وإما الهزال وضعف البدن. ويروي الشيخ جمال الدين الشيرازي لبعض أهل اليمن:

إن أردتَ الإنجاب فانكح غريبا .. وإلى الأقربين لا تتوسل

فانتقاء الثمار طيبا وحسنا .. ثمر غصنه غريب موَصّل

ويروي التوحيدي في [الإمتاع والمؤانسة] أن رجلا قال لولده: والله لقد كفيتك الضؤولة، واخترت لك الخؤولة. والتوحيدي يرى أن الضوى في الأبدان واصل إلى العقول أيضا، وأن العرب تريد بالضوى نقص الذهن والعقل، لذلك قالوا: الغرائب أنجب، والنجابة في العقول. ويرى أبو حيان أن هذا من طباع الأرض، لذلك قيل: 'إذا كثرت المؤتفكات زكَت الأرض'، لأن الرياح إذا اختلفتْ حوّلتْ ترابَ أرضٍ إلى أرض، وإذا كان الاغتراب يؤثر من التراب إلى التراب، فبالحريّ أن يؤثر الإنسانُ في الإنسان بالاغتراب، لأن الإنسانَ أيضا من التراب.

ومع دعوة الطب الحديث إلى الابتعاد عن الزواج من الأقارب، وتحذير العرب القدامى منه، مازال كثير من بني زماننا لا يتزوجون من غير أقاربهم، إما جهلا بأضراره، وإما عادة غَلَبتْ، ولو أمعن أحد هؤلاء في قصر أبنائه، وضعف مناعتهم وقلة نجابتهم، لأدرك صدق العرب عندما قالوا: 'اغتربوا لا تضووا'، ولأوصى أبناءه بوصية الأول: 'الغرائب لا القرائب'.

عبدالله غليس

الآن - رأي: عبدالله غليس

تعليقات

اكتب تعليقك