عن طارق البشري وغموض 'البنا'!.. يكتب خليل حيدر

زاوية الكتاب

كتب 603 مشاهدات 0


الوطن

أفكار وأضواء  /  طارق البشري.. وغموض 'البنا'

خليل علي حيدر

 

تأمّل الأستاذ طارق البشري في كتابه «الحركة السياسية في مصر» موقف الاخوان المسلمين من دستور 1923، فقد طالبت الجماعة «بألا يكتفي في الدستور بالنص على ان دين الدولة هو الاسلام، بل يلزم ان تكون جميع القوانين اسلامية، وطالبت بالغاء القوانين الوضعية».
وكانت الجماعة تعلن احترامها للدستور، الا ان المرشد العام حسن البنّا خاطب الزعماء سنة 1938 قائلاً: «لابد من جديد في هذه الأمة. هذا الجديد هو تغيير النظم المرقعة المهلهلة التي لم تجن منها الأمة غير الانشقاق والفرقة»، واقترح ضمن الحلول «تعديل الدستور المصري تعديلاً جوهرياً توحد فيه السلطات». (ص 57)
غير ان البنّا في «رسالة المؤتمر الخامس» في العام نفسه 1938، يقول ان الباحث في مبادئ الحكم الدستوري يتجلى له «أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الاسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ولهذا يعتقد الاخوان المسلمون ان نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله الى الاسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر». الا ان المرشد أشار في خطابه هذا الى «أن الدستور شيء والقانون شيء آخر».
وأضاف ان الاخوان المسلمين «لا يوافقون على هذا القانون أبداً وسيعملون بكل سبيل على ان يحل محله التشريع الاسلامي العادل الفاضل في نواحي القانون.. فالعقيدة أثمن ما في الوجود». (الرسائل، ص174-171)
كان الغموض وطرح العموميات وتبني المصطلحات الفضفاضة من وسائل الدعوة والصراع الفكري والسياسي المعروفة لدى جماعة «الاخوان» ولا تزال. ومن المستبعد تماماً ان تستغني أي حركة سياسية عنها، وبخاصة ان كانت حركة عقائدية في حالة صراع وصعود. ولكن كيف يمكن تبرير الغموض وينبغي لتعاليم الدين ان تكون سهلة واضحة؟
يقول البشري: الباحثة «كرستينا هاريس» في كتابها «الوطنية والثورة في مصر»، تقول ان حسن البنّا «كان دائماً غامضاً في تعيين الاقتراحات المفصلة عن الحكومة الاسلامية، وانه لم يحدث أبداً ان شرح نواياه في وضوح».
ويضيف البشري: «الذي يظهر من أقوال المرشد عن الدستور ان الغموض كذلك كان يكتنف أسلوب العمل السياسي للجماعة، ولم ينحسم أبداً في دعوته ما اذا كان يقصد الاصلاح أم الثورة، واذا كانت الثورة فتنة فكيف يمكن اجراء التغييرات الجذرية في نظام الحكم؟، وبغير الثورة كيف يمكن الاحتفاظ بنظام للحكم يقوم على قواعد مخالفة لمجموعة من الأفكار التي دعت اليها الجماعة مثل الغاء الحزبية واقامة الخلافة وتوحيد السلطة وتغيير كافة القوانين الوضعية؟. (ص 59).
وبالنسبة للمشاكل الاجتماعية، يضيف البشري: «لا يُلاحظ في كتابات الجماعة تأكيد الا على بعض القيم العامة المتعلقة بمحاربة الفقر والدعوة الى الاحسان الى ذوي القربى وغيرهم، وتقرير مسؤولية الأمة عن حماية الضعفاء فيها، والحديث عن التعاون الاجتماعي ومنع الاحتكار والرشوة واستغلال النفوذ، ووجوب العمل والكسب على كل قادر عليه، ولا يرد واضحاً مؤكداً الا تحريم الربا وفرض الزكاة».
ومن جوانب الغموض الأخرى في خطب ودعوة البنا، التي يوردها «البشري» ما جاء في رسالة الاخوان المعروفة «الى أي شيء ندعو الناس». فقد «أشار المرشد الى قضايا العصر، قائلاً ان العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة والصلة بين المالك والمستهلك كلها خاض فيها الاسلام، ولكن - المرشد - لم يوضح فكرته ولا موقف الجماعة من هذه القضايا معتذرعاً بأن المقام لا يسمح بالتفصيل، وبأن الأمر يحتاج لجولات، وَعَدَ ان يفصِّل فيها القول، ولكن لم يظهر شيء من هذا التفصيل».
ويحكي أنور السادات في كتابه «أسرار الثورة المصرية»، كما يورد عنه البشري، ان حسن البنا خلال الحرب – العالمية الثانية – كان يجمع السلاح ويخزنه بغير ان يطلع أقرب الناس من كبار الاخوان على ذلك مستعيناً بشبان صغار من الجماعة، كما كانت مقابلاته للسادات غير معروفة للكثيرين من الاخوان»، ويقول السادات «ان حسن البنا وحده كان الرجل الذي يعد العدة لحركة الاخوان، ويرسم سياساتها ثم يحتفظ بها لنفسه، وان أقرب المقربين اليه لم يكن يعرف من خططه شيئاً ولا من أهدافه». بل ان المرشد في مذكراته، «مذكرات الدعوة والداعية»، يقول البشري، يسرد حكاية الذين عارضوه قبيل انتقاله من الاسماعيلية.
وفي حديثه عن مخالفيه يقول ان الشيطان هو من زين لهم ذلك، ويشير الى الخوارج ووجوب اخذهم بالحزم، والى حديث ان من يشق عصا الجميع «فأضربوه بالسيف كائناً من كان»، ويعلق البنا بقوله «لكننا تأثرنا الى حد كبير بالنظم المائعة التي يسترونها بألفاظ الديموقراطية والحرية الشخصية، وما كانت الديموقراطية ولا الحرية يوماً من الأيام معناهما تفكيك الوحدة والعبث بحرية الآخرين» (انظر «مذكرات الدعوة والداعية»، طبعة دار الشهاب، 1966، ص120-118).
ويحلل طارق البشري دور الغموض في تعزيز مركز المرشد، فغموض الفكر، يقول، «لازم لانطلاق السلطة الشخصية، اذ تعتمد على حريّة العمل والتصرف، واذ يقتضي ذلك انتفاء المحاسبة وامكاناتها، وغموض الأهداف والمناهج يفقد الآخرين القدرة على المحاسبة، ويحيل صاحب الدعوة من عامل ملتزم بتحقيق فكرة ما الى صاحب لهذه الفكرة يدور بها حيث شاء، ولا يكون لآخرين ازاءه الا الطاعة أو الخروج عليه». (ص62-61).
ويستعين البشري بكتاب صادر عن الوسط «الاخواني» وهو «الاخوان المسلمون والمجتمع المصري»، لمحمد شوقي زكي. فهذا الكتاب يتحدّث عن التركيبة الهيكلية الصارمة والمتداخلة والهرمية لتنظيم «الاخوان»، ويقف البشري عند طريقة العمل داخل الجماعة، حيث يذكر هذا الكتاب ان نظام «الاخوان» يقوم «على أخذ موافقة الجميع لا الأغلبية فقط كما هو الحال في النظام الديموقراطي، حتى ولو أدّى ذلك الى الاتصال الشخصي بالأعضاء لاقناعهم برأي الأغلبية، حتى يصدر الرأي بالاجماع، ومن ثم يتعاون الجميع في تنفيذه، وبهذا كانت معظم قرارات «الاخوان» المهمة تصدر بالاجماع، وذلك حرصاً على وحدتهم». (البشري، 62).
ويُعد كتاب «الاخوان المسلمون والمجتمع المصري»، كما تقول مقدمته، بعد اعادة طباعته عام 1980، «أوّل رسالة علمية في مصر - وربما في العالم - عن الاخوان».
ويضيف كاتب المقدمة، «واضح من الكتاب ان مؤلفه قد عايش الكثير من الأحداث المهمة التي عاشتها الجماعة في أكثر من مكان، كما ان الأستاذ المشرف على الرسالة، فضلاً على كونه أستاذاً جامعياً، كان عضواً في قمّة الهرم الاداري ل«الاخوان المسلمين»، فقد كان عضو مكتب الارشاد العام، مما يعطي لهذا الكتاب وزنه كمرجع علمي ومستند تاريخي عن الاخوان».
وتشير المقدمة كذلك مؤكدة ان المؤلف «كان بحق موضوعياً متطرفاً، وكان هذا الكتاب أوّل كتاب يتناول بالدراسة والتحليل التنظيم الاداري والهرم الاداري ونظام التمويل جماعة الاخوان».
ولهذا الكتاب بالذات، ويقع في نحو 240 صفحة، وظهرت طبعته الأولى ربما عام 1952 أو بعد ذلك بقليل، أهمية خاصة في الاشارة ضمن أشياء كثيرة، الى بداية اهتمام الاخوان بتقديم الخدمات الاجتماعية للمجتمع المصري.
وتقول المقدمة ان مؤلف الكتاب يبين من خلال مسح ميداني للقاهرة والجيزة، «نوعية الخدمات الاجتماعية والثقافية والدينية التي قدمتها جماعة الاخوان المسلمين في هذه البقعة من أرض مصر، كعينة لما قدمته الجماعة في سائر القطر المصري، وما كان يمكن ان تقدمه للمجتمع المصري والعربي من خدمات في كافة المجالات، لو أتيح لها ان تعمل بلا معوقات، وأن تنطلق في خدمة المجتمع المصري والعربي والاسلامي».
وقد باشرت الجماعة تطوير هذا الجانب من تقديم الخدمات بعد السماح لها بحريّة الحركة ابتداء من عهد السادات، واستخدمت الجماعة هذه العلاقة المباشرة مع الشرائح الفقيرة والمتوسطة في اختراقها الواسع لمختلف الأوساط وتوظيف ردود الفعل الايجابية لصالح تعزيز قوّة الجماعة وتوسعها المالي والبشري.
ونعود الى كتاب البشري فنراه يتحدّث عن أسلوب المرشد البنّا في تعزيز قوته ومكانته على رأس الهرم التنظيمي.
يقول البشري: «لا يبدو ان تجميع سلطات التنظيم في يد المرشد كان أمراً مثيراً للاعتراض لدى الجماعة، فقد كان الشيخ البنّا هو صاحب الدعوة ومنشؤها. ولم يُلحظ في مختلف كتابات الاخوان ان ثمة واجبات مقابلة يلتزم بها القائد تجاه الأعضاء، عملية كانت أو نظرية أو ان وسائل حُدِّدت لممارسة النقد أو المراجعة للقائد. كتب صالح عشماوي، أحد كبار الاخوان البارزين، موجهاً خطابه الى المرشد العام في أمرٍ ما يقول: ان من حقك علينا الطاعة. على هذا بايعنا وعاهدنا ولنا فيك الثقة الكاملة وعندك الطمأنينة الشاملة».
كان المرشد من المعجبين، وهو من شهد صعود النازية والفاشية والستالينية والأتاتوركية وغيرها، بالنمط القيادي الشمولي الحازم. ولا شك في ان طبيعة الحزب، وخصائص المجتمع المصري، وبعض النصوص الدينية التي فسرها بلا شك لصالحه، قد جعلت زعامته وهيمنته مقبولة بلا منافس داخل الجماعة.
يقول البشري: «اذا كان ما يحدث بالنسبة للكثير من الحركات السياسية ان يكون لشخصية زعيمها نفوذ يتجه الى الهيمنة على مقدراتها فيصبح رمزاً لها وتجسيداً لخير ما تعدو اليه، ويناط به قدر من المسؤولية ينوء به الفرد، فقد كان وضع مرشد الاخوان بالنسبة اليهم يجاوز فيما يبدو هذه الصورة. وقد سلك هو الى ذلك السبيل التقليدي باقصاء معارضيه كلما تجمع في مواجهة اتجاه معارض، واقصاء أي فرد ينمو نفوذه أو تستطيل قامته حتى تشارف هامة المرشد أو ينذر بأن يكون قطباً ثانياً جاذباً لأي اتجاه معارض».
ومن أمثلة لجوء المرشد الى هذا الاقصاء «ما حدث في بداية الدعوة عندما أبعد المرشد من اختلفوا معه على تعيين النائب عنه عند انتقاله من الاسماعيلية، ثم حدث مع من عارضوه عندما اتجه بالجماعة صراحة الى السياسة سنة 1939، كما حدث بالنسبة لأحمد السكري الذي كان من رجال الجماعة الأوائل» (ص 63).
وكان «السكري» على خلاف مع المرشد بسبب خلاف سياسي يرتبط بالعلاقات مع حزب الوفد، ويقول د.ريتشارد ميتشل في كتابه الشهير الاخوان المسلمون، طبعة 1979، ان السكري «صرح انه ليس من الممكن لجماعة الاخوان ان تكون قوة في مصر الا اذا دخلت في اتحاد عضوي مع «الوفد» وحتى تستطيع ان تؤثر في الناخبين وان تصل الى السلطة يجب عليها ان تزاول نشاطها عن طريق حزب سياسي وان تعتمد عليه، وحيث كان الوفد هو الحزب الوحيد الذي يتمتع بالشعبية، فلا مغزى من ان يكون هو الحزب المقصود، وهكذا قدر السكري ان يكون دور الاخوان بمثابة الاستكمال الروحي للوفد، كما وجد السكري في نفسه الزعيم «السياسي» للاخوان المسلمين وفي البنا المرشد «الروحي» لهم، وبهذا يعملان سويا كجزء من اتحاد «للاحزاب الشعبية» لا يمكن قهره على ان السكري بصرف النظر عن اخلاص افكاره ومداها، كان قد قرر في الواقع تحدي البنا بوصفه زعيما للجماعة، وكان الدافع خلف هذا التحدي هو الثورة على ممارسة البنا المستمرة لسلطته التحكمية، وهو نفس الدافع الذي اعتمل في نفس ابراهيم حسن – احد نائبي البنا – وعدد غير معروف من قادة الاخوان البارزين».
ويضيف د.ميتشل محللا اذيال خروج ابراهيم حسن والسكري من الاخوان بانها كانت ازمة خانقة، «عجلت في القيادة في واقع الامر بتنشيط الجهاز السري، وجدير بالذكر ان يكون الرجل الذي اختاره البنا ليحل محل ابراهيم حسن والسكري كنائب له كان اول رئيس لهذا الجهاز السري، وهو صالح العشماوي، ويبدو ان الجهاز السري في هذه الآونة كان قد استكمل تكوينه ووضع قواعده المنظمة واقسامه وعتاده، ولئن كان اعضاؤه لم يكثروا عددا قط فقد ازدادوا خبرة بما وقع عليه الاختيار من ضباط الجيش، الذين ربما كان من بينهم بعض الذين شاركوا في ثورة 1952 فيما بعد، كان البنا فعلا هو الرئيس الأعلى لهذه المجموعة ولو انه كان دائم الاتصال بها عن طريق ممثلين، اما قيادة الجهاز نفسه فقد انتقلت من عشماوي الى عبدالرحمن السندي الذي كانت له سلطات ومطامح واسعة غير عادية» (ص141-139).
يقول القيادي الاخواني، العضو المؤسس في التنظيم الخاص او السري للاخوان، وأحد مؤرخي الاخوان عبدالحليم محمود في الجزء الاول من مذكراته «الاخوان المسلمون: احداث صنعت التاريخ» الجزء الاول، القاهرة 1979، ص 258، عن بداية تأسيس التنظيم ما يلي: «كان ذلك في عام 1940 حين دعا (البنا) خمسة منا هم صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شربت وعبدالعزيز أحمد ومحمود عبد الحليم، وعرض علينا الدواعي التي رآها تقتضي الاستعداد وانشاء نظام خاص تواجه الدعوة به مسؤولياتها في المستقبل.. واقتنعنا برأيه فكون منا نحن الخمسة قيادة هذا النظام وعهد الينا بانشائه وتنظيمه وتدريبه، على ان يكون على أساس من العسكرية الاسلامية القوية النظيفة، وعلى ان يحاط بالسرية المطلقة بحيث لا يعرف عنه أحد شيئًا الا أعضاؤه، وعلى ان يكون تمويله من جيوب أعضائه لأنه علامة الجد فيمن تقدم للتضحية بروحه ان يضحي بماله، ورتب القيادة بحيث يكون صالح عشماوي الأول باعتباره المتفرغ الكامل ويليه كمال الدين حسين فمحمود عبد الحليم فحامد شربت فعبدالعزيز أحمد».
هذه رواية عبدالحليم محمود عن بداية انطلاق التنظيم السري.. وهناك بالطبع روايات وتفاصيل كثيرة اخرى لا يتسع لها المجال!

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك