فهمي هويدي يكتب .. إذا ترجمت الأقوال إلى أفعال

زاوية الكتاب

كتب 375 مشاهدات 0

فهمي هويدي

الشروق

إذا ترجمت الأقوال إلى أفعال

فهمي هويدي

 

لو أن عناوين الصحف الصادرة هذه الأيام ترجمت إلى أفعال لأصبحت مصر جنة الفقراء. ولو أن كل حرف منها وزع على فقير فى المحروسة لكفاه ذلك هو وذريته إلى يوم الدين. ولو أن أهل العالم المحيط صدقوا ما تقوله وسائل الإعلام عن تحقيق أحلام الفقراء ومحدودى الدخل، لتدفقت قوافل المهاجرين نحو الموانئ المصرية، ولطلبت مصر معونة دولية لوقف زحف جحافلهم الجرارة.

ليس فيما أدعيه مبالغة، لأن من يطالع تصريحات المسئولين التى تنقلها وسائل الإعلام هذه الأيام صباح مساء يلاحظ أنها جميعا تردد مقطوعة واحدة بصياغات شتى. أما عنوانها الرئيسى فهو أن الفقراء ومحدودى الدخل هم «نور أعين» الحكومة، وأن كل ما يتخذ الآن من إجراءات لرفع الأسعار لن يمسهم بسوء ولكنه فى صالحهم فى نهاية المطاف.

لحسن حظ الحكومة أن الناس لم يعودوا يصدقون كلامها، وأن الإعلام الأمنى والرسمى فقد صدقيته، لأنهم لو أخذوا كلامها على محمل الجد وصدقوها فسيخرجون غاضبين إلى الشوارع مطالبينها بتنفيذ وعودها ومحاسبين المسئولين على ما أطلقوه من تصريحات وما روجوا له من مشروعات.

من خبرتنا فى مصر تعلمنا ألا نستبشر خيرا بتكثيف التصريحات حول أية قضية. وربما كان ذلك راجعا إلى تخوف كامن فى ثقافتنا يعبر عن القلق على المستقبل. حتى الفرحة والضحك إذا ارتفعت وتيرتهما فإن المصرى يسارع إلى التوجس مرددا عبارة «اللهم أجعله خيرا». صحيح أن المصريين مشهورون بالظرف ومعروف عنهم أنهم أهل نكتة. إلا أننى لم أجد فى التراث الثقافى الذى وقعت عليه أنهم أهل فرح. وكأن الفرح ليس من تقاليد مجتمعاتنا الراسخة. وسواء كان ذلك راجعا إلى شيوع الظلم أو الفقر، فإننا تعلمنا أن المبالغة فى التصريحات والوعود المتفائلة لا تكون فى الأغلب رسالة إيجابية. وإنما هى فى حقيقة الأمر تحاول أن تستر شيئا ما سلبيا أو مقلقا. حتى فى أوساط مهنة الصحافة فإننا تعلمنا أن الخبر الذى تشدد الحكومة على نفيه وتلح على توصيل رسالة النفى إلى أوسع دائرة ممكنة من البشر، عادة ما يكون خبرا صحيحا ولكن الحسابات الأمنية والسياسية تسعى إلى طمس معالمه ومحوه من الذاكرة.

ما يحدث فى مصر الآن يؤيد ذلك الادعاء. فالمبالغة فى التأكيد على أن الإجراءات الاقتصادية المتخذة لن تؤثر على الفقراء ومحدودى الدخل دالة على أن أولى الأمر أدركوا أن الفقراء ومحدودى الدخل هم أكثر من يكتوى بنار الأسعار، وأن الأغنياء لا يسعدهم حقا الزيادات التى حدثت فى الأسعار. لكنها لن تجبر أحدا منهم على تغيير نمط حياته.

ما يحدث بالنسبة للوعود التى تحاول دغدغة مشاعر الفقراء وترطيب جوانحهم. نستطيع أن نعممه على حكاية الإنجازات، التى باتت تتنافس الصحف على إبرازها والتهليل لها. إذ رغم أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن ثمة إنجازات فعلا واضحة فى مشروعات شق الطرق مثلا، إلا أن المبالغة فى الحديث عن الإنجاز المبهر وكيف أنه تجاوز الخيال وحقق ما لم يحققه الأولون والأخيرون تفوح منه رائحة المبالغة بقوة. على نحو يفقدنا الثقة فيها. وهو ما ينطبق عليه المثل القائل بأن الشىء إذا زاد على حده انقلب إلى ضده.

دعوا الأفعال تتكلم عن نفسها، بحيث يلمسها الناس ويرونها بأعينهم بأكثر مما يسمعون عنها أو يهتف الإعلام لها. بكلام آخر فإن النموذج الذى يضرب والواقع الذى يتبلور يظل أكثر إقناعا بمراحل من سيل التصريحات وضجيج الإعلام وهتاف المهللين وتصفيقهم.

على صعيد آخر فإن المسئولين الذين يعولون على الإعلام ويغرقون الناس بالوعود على صفحات الصحف وبرامج التليفزيون، يخاطبون المجتمع بلغة تجاوزها الزمن. فما عاد الإعلام مؤثرا وتحت السيطرة كما كان عليه فى القرن الماضى، ذلك أن تطور وسائل الاتصال أخرج الإعلام من سيطرة السلطة. بحيث ما عادت صاحبة الصوت الوحيد الذى يسمعونه، ولكن ظهرت إلى جانب إعلام السلطة منابر ووسائط أخرى خارج السيطرة وأقوى تأثيرا على المجتمع. ولا ينسى أيضا أن ما تطور ليس وسائل الإعلام والاتصال فحسب، ولكنه أيضا وعى الناس الذين انتشر بينهم التعليم وأصبحوا أكثر قدرة على التواصل مع العالم الخارجى. ومن الملاحظات ذات الدلالة فى هذا الصدد أن ظهور الإعلام المستقل والخارج عن السيطرة له دوره المشهود الذى انعكس على تراجع توزيع الصحف المطبوعة وتراجع أعداد مشاهدى البرامج الحوارية (توك شو).

ليس لدينا المسئول الذى يملك شجاعة وثقة الإعلان على الملأ أنه يعد الناس بالعرق والدماء والألم، كما قال ونستون تشرشل حين رأس الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. لكننا نعرف الكثير عن أساليب مداهنة الجماهير وتسويق الأوهام لها. ومن الفوارق المهمة بين النموذجين، أن الأول يعرف أنه سيساءل ويحاسب على ما يقول ويفعل، أما الثانى فهو مطمئن إلى أنه فوق الحساب والمساءلة. الأول يضع فى اعتباره قوة المجتمع. فى حين أن الثانى يعول على حناجر المهللين وربما قوة السلطة.

إن حديث الإنجازات لن يشبع الفقراء أو يقنعهم. وما لم يلمسه هؤلاء بأيديهم وداخل بيوتهم، أو أن تدل الشواهد اليقينية على أن الفرج القريب قادم. فإنه سيصبح دخانا فى الهواء يختفى أثره فى غمضة عين.

ملاحظتى الأخيرة أننا نسمع الكثير عن الإصلاح الاقتصادى، وكأن الإصلاح السياسى ليس واردا على الأجندة، فلا مستقبل له ولا أمل فيه وأنه من قبيل الأحلام بعيدة التحقيق التى لن يتسنى لجيلنا أن يرى لها أثرا على أرض الواقع.

الشروق

تعليقات

اكتب تعليقك