الشيخ محمد .. بقلم خلود الخميس

زاوية الكتاب

كتب 510 مشاهدات 0


الأنباء

الشيخ محمد

خلود الخميس

 

وضع على رأسه غطاء الرأس الأبيض الدائري، والذي حجب أيضاً شعره المسدل على جبينه، وأمسك بيد والده، بعد أن دس قدميه الصغيرتين في حذاء تم تلميعه باهتمام خاص لهذا اليوم، وسمع دعاء أمه: «الله يجعل طريقكما مفتوحاً»، وهو دعاء مشهور، يستخدمه الأتراك للفتح والنصر، ولتمني البركة في البدايات، وقد سمعه «محمد» من أمه في يومه الأول.

أول مرة يرافق أباه الى الجامع حتى يحضر صلاة الجمعة، ويصحب معه الشغف كله للحكايات والبشارات التي تكررت على مسامعه على مر سنوات في أجر وفضل صلاة الجمعة في المساجد، وربطها بعمارة بيوت الله.

في عمر السابعة يبدأ التدريب على تكليف الصلاة، ولكن أبو محمد اعتاد أن يصلي مع أبنائه قبل ذلك بكثير، يسحبهم للوقوف معه في صلواته داخل بيتهم، وأحياناً في الحديقة داخل سور البيت، ويذكر أنه في إحدى الجمع أخذ ابنه الرضيع معه لصفوف الرجال، لأن زوجته أخذت الفتاة الصغيرة معها، وصعب عليها الاهتمام بالاثنين، ومحمد يقلد أباه.

عندما دخل المسجد أطلق لعينيه التجول في المكان، السقف الشاهق، الأضواء الباذخة في منتصف مصلى الرجال، الطابق الثاني الذي يستخدم للنساء، أو إن اكتظ المسجد بالرجال، وهو في رحلة الاكتشاف سمع: السلام عليكم ورحمة الله، ونودي للصلاة.

لم يتحرك محمد من مكانه، لقد كان مدرباً لهذا اليوم، لم يرفع عينيه من الرجل الذي يقف فوق السلالم، معتلياً منبر الخطبة، وبين الخطبتين رفع كفيه ليدعو، أو لأنه تقليد، ولكنه فعل ما يفعله المسلمون حوله.

بعد الصلاة ارتفعت أصوات التسابيح والذكر من الإمام أو المؤذن، وهي عادة في مساجد الأتراك، لأن الغالبية لا تعرف اللغة العربية، فيكررون لهم الذكر بعد الصلوات بصيغتها.

أخذه أبوه من يده ليحيّي الإمام والمؤذن، وسمع من التشجيع والمديح أكثر من ذاك الذي تقوله أمه إن أتم فروضه المدرسية، فابتسم، وأحب المكان الذي وجد فيه، كل جاء مختاراً، وبوجه ينتظر هدية ما، وكان هو ومن في عمره فقط يتجولون بين الوجوه بفضول، وكأنهم يتساءلون بعجب: ما سبب سكينتهم؟!

وكانت بداية رحلة محمد.

 

تعلق قلبه بالمسجد الضخم الذي حضر فيه أول صلاة جمعة له، وصار يطلب من أبيه الذهاب أثناء الأسبوع، واستجاب أبوه، وانتبه له الإمام وناداه أكثر من مرة لموعظة تناسب عمره، ولتكرار الثناء على تردده على المسجد للصلاة في غير صلاة الجمعة، وعرض على أبيه أن يحفظه القرآن.

في 2015 صلى محمد بالمسلمين إماماً لمسجد صغير في منطقته، وكنتُ أتجول في المنطقة عندما حان موعد الصلاة، فدخلت وصليتُ خلفه، ولاحظتُ أن السيدة بقربي بعد التسليم رفعت يديها للدعاء وعيناها تدمعان، ووجهها احتقن، ربَّتُّ على كتفها وابتسمتُ، فقالت بالتركية: أنا أمه، هذه فهمتها، ولكن الحوار يتطلب لغة لا أجيدها تماماً، فشاركتنا فتاة عشرينية بترجمة التركية الى الانجليزية.

النتيجة حتى لا أطيل عليكم، عرفتُ قصة محمد من أمه، وبدعم فتاة، من مرتادات المسجد، ليس لها مصلحة في مساعدتنا وإجراء حوار تعارف لا ضرورة أو طوارئ فيه، وأعطتنا وقتها، وكانت إن صعبت عليها ترجمة كلمة تبحث عنها في المترجم.

فرحت جداً، وبالنسبة لي ذاك يوم من أيام الله.

عرفتُ أن أبا محمد رجل من أثرياء اسطنبول، بل الأثرياء جداً، وعندما تراه لا تلحظ إلا زهدا ووجها موعودا بالنور يمشي به بين الناس.

الأنباء

تعليقات

اكتب تعليقك