لكل فنان كواليسه الخاصة مع الراحل 'أبا عدنان'

زاوية الكتاب

يكتب علي فريج ناعيًا الكبير عبدالحسين عبدالرضا

كتب 637 مشاهدات 0


في عام 1986 وقبيل زواجي وسفري إلى المملكة المتحدة، لأكمل دراستي في فنون التلفزيون، بعدة شهور. رشحني حينها صديقي المخرج والسينوغرافي المميز الأستاذ نجف جمال لأقوم بتنفيذ الإضاءة التي صممها لتتناغم مع رؤيته السينوغرافية وتفاصيل الديكور الذي صممه هو أيضا ومؤثراته الضوئية التشكيلية (Gobs) التي من المفترض أن تنعكس على الشاشة البانورامية الخلفية، وكذلك مع المؤثرات الخاصة من مفرقعات صوتية وضوئية، في مسرحية (باي باي عرب) التي كتبها المصري نبيل بدران وأخرجها التونسي منصف السويسي وقدمها الراحل عبد الحسين عبد الرضا مع نخبة من نجوم المسرح الكويتي في العام نفسه.

لم أكن موظفا مخولا للعمل على أجهزة الإضاءة في المسارح الرسمية الكويتية، وهناك موظفون يتقاضون مرتبات وموكلون بهذا الأمر، لكن الأستاذ جمال أصر على أن أقوم أنا بالتنفيذ لخبرتي في هذا المجال ولتناغمي الفكري مع رؤاه، وتم الأمر.

كانت فرصة سعيدة لي أن أعمل مع نجم الكوميديا الأول في الكويت والخليج وأتعرف عليه وعلى كيفية اشتغاله، فالعمل معه حلم يراود كل فنان يطمح للتميز، سأزامل عملاق الكوميديا وسأكون معه في عمل واحد وسأتلمس عن كثب كيف يفكر وكيف يتمرن وكيف يصنع الابتسامة مع زملائه، سأكون قريبا جدا من مطبخ الإبداع.

كنت سعيدا جدا لأن أصابعي هي التي ستضيئ وجه النجم عبد الحسين، وستشكل خلفيات مشاهده البصرية المميزة، كنت مسئولا عن تنفيذ الرؤيا البصرية للصديق نجف جمال وكان علي أن أبذل أقصى جهدي كي لا أخيب ظنه بي وقد أصر وتشبث بوجودي كما يتشبث الرسام 'بباليتته'.

اشتغلت تغمرني السعادة حتى حدث ما أزعجني وعكر مزاجي حين سمعت وشاهدت عبد الرضا يردد، على لسان شخصية من الشخصيات المتعددة التي يؤديها في المسرحية وفي اللوحة المتعلقة بعروبة فلسطين، واصفا ما يشاهدة من أفلام وثائقية بالأبيض والأسود لهجرة الشعب الفلسطيني أبان نكبة أيار عام 1948: (كل ما تطالع فيلم عن هجرة الشعب الفلسطيني لازم تشوف رجال يخرط بنطرونه ويبول؛ اليهود لما احتلوا فلسطين عدلوها وسنعوها وبنوا فيها العمارات والحدائق) ـ انتهى الاقتباس ـ

حاولت أن أصمت لأن 'الإفيه' عزيز على الممثل وخاصة عندما يحقق أصداءً ويجعل الصالة تضج بالضحك بشكل هستيري، لقد تحول هذا 'الإفيه' إلى جزء مهم من العرض. أعلنت عن انزعاجي وغضبي لصديقي الأستاذ نجف جمال، فبادر وتحدث مع عبد الرضا ونقل له انزعاجي وغضبي فقال له الأخير: (علي فريج، نراضيه).

وفي اليوم التالي وقبل الافتتاح بنصف ساعة تقريبا ناداني رحمه الله وسألني عن سبب انزعاجي وغضبي فقلت له بالحرف الواحد: إن اللاجئ الفلسطيني لم يكن لديه حينها بيت ولا دورة مياه، كان يقضي حاجته خارج الخيمة في الأرض الواسعة التي كانت متنفسه ودار خلائه، العيب ليس بمن بال ولكن العيب بمن صور هذا الموقف. وقلت له مدافعا عن وجهة نظري ومعبرا عن انزعاجي : كل محتل يسعى لسلب صاحب الأرض حقه الوطني في تعمير بلده، مع أن فلسطين كانت قبل النكبة منارة من منارات المشرق الأوسط وأريته صورا للمدن الفلسطينية في عشرينان القرن الماضي جلبتها من سيارتي وقد جهزتها لأنني كنت أزمع التحدث مع الراحل عبد الرضا لكن دون أن أحدد ساعة الصفر. أريته صور المسارح والسينمات في مدينة يافا، وصورا للعمارات الشاهقة والمزودة بالمصاعد الكهربائية وحدثته عن حفلات أم كلثوم التي كانت تقدم على المسارح المميزة في حيفا ويافا والناصرة قبل النكبة وأريته صورا من إعلاناتها. تأثر كثيرا واعتذر لي وقال (بأن ما يزعج علي فريج أكيد سيزعج الكثيرين) ووضع سبابته على أنفه، وهذه الحركة تعني في الكويت والخليج الوعد القاطع الذي يقطعه الرجال على أنفسهم، ثم قبلني على وجنتي وذهب إلى الكالوس ليستعد للدخول إلى الخشبة وذهبت أنا إلى كبينتي العلوية مرتاحا بأنني أفرغت شحنة الانزعاج في داخلي بل وسعيدا وقد وفى بوعده أبو عدنان لصديقي الأستاذ نجف (وراضاني) وقبلني أيضا.

ابتدأ العرض بعد الوعد، وكان انتهاء ما يقال عن الفلسطينيين يشكل مفتاحا لحوار الفنانة حياة الفهد، لم يقله أبو عدنان، التزاما بالوعد، فصمتت حياة بانتظار المفتاح الذي اعتادت الدخول بعده، فبادها قائلا: (ماكو حكي خلاص قولي حوارك)، وأشار إلي في الكبينة وقال لها: (علي فريج يزعل)، فرمشت له بالإضاءة تحية له فضحك وأردف: (طالعي .. كاهو استانس)، فضجت الصالة بالضحك وأصبح هذا الموقف 'إفيها' بديلا قاله لعدة لعدة أيام.

انتهت العروض وجاء موعد تسليم المكافآت فهاتفني مكتبه وذهبت لاستلام أجري، فوجئت بأن المبلغ المخصص لي هو ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه الأكثر تميزا في تنفيذ الإضاءة. انتباني الشك، فربما هناك خطأ ما، ورفضت استلام 'الشيك'، فاتصل المحاسب بأبي عدنان فأتى الأخير وأخذني إلى مكتبه وأعلن لي عن سعادته في عملي معه، قلت له بأن أجري كبير، قد يكون هناك خطأ، فرد علي والابتسامة تكلل وجهه الوسيم كالتالي: (لا ماكو خطأ .. ثلث المبلغ أهو أجرك والثلث الثاني نقوطي لك بمناسبة زواجك القادم والثلث الأخير أهو دعمي لك بمناسبة سفرك للدراسة في لندن، هالله هالله عاد بالشهادة، الله يوفقك ونبيك ترد لنا مخرج)، فشكرته وودعته وغادرت ينضح مني الإحساس بالفرح والامتنان وكأنني كنت في حلم جميل.

هذي هي كواليسي مع الراحل عبد الحسين عبد الرضا ، وأكاد أجزم أن لكل فنان كواليسه الخاصة معه التي ما أن يتذكرها حتى تنساب الدموع من عينيه مدرارة. ما أجملها من لحظة عندما تجتمع الإنسانية مع الفن، كلاهما جميل بل وكل منهما أجمل من الآخر.

سنبكيك يا أبا عدنان، فعلى أمثالك يبكي البواكي، رحمك الله وأحسن مثواك وطيب ثراك وثقل موازينك.
إنا لله وإنا إليه راجعون.

علي فريج - كاتب ومخرج وأستاذ الدراما - الأردن

الآن - علي فريج

تعليقات

اكتب تعليقك