مشكلات الشباب بالمجتمع الكويتي

محليات وبرلمان

هيثم الناهي يسجل قراءته في كتاب د.علي الطراح- دلالات معرفية واشكالات نقدية واجتماعية

5778 مشاهدات 0


قد يمكث المرء دهراً ويستبيح الثقافة عمراً، ينهل من هنا وهناك، ويغوص في مفاتن المعرفة ليرخي الذات التي سعت دوماً للغوص في أعماق العمق الذاتي، ساعيةً لإثبات وجود الأشياء. لم يكن هذا بالأمر اليسير الذي يرنّ في فلك الأصداء، لمعرفة بوتقة المجتمع وزمهرير أفق التأنّي باختلافه وسجيته؛ كلاهما يرتبط في عمق المفهوم، وكلاهما يبحث عن الاكتمال والعون. كانت هذه إشارة تدور في فلك التفكير، أصارعها تارةً وأُمسك بها برفقٍ تارةً أخرى؛ فضلاً عن مداعبة النفس في فضح الأشياء المعرفية، وسبك الأفق الذي لا ريق ولا خبز لي فيه. إنها المعرفة وفضولية الاطّلاع، همسٌ يراودني، وترتجف يداي حين تمتدّ لقراءة منتجٍ نابعٍ من عنفوان الذات المتألّمة الجريحة الواعية، التي تخلد إلى السكينة والاطمئنان.

كان الكتاب منذُ عهدٍ غير قريب، أو ماضٍ بعيد، قد سمعت به وأسديت في الاستماع إليه من صديقٍ عزيز كمعزّة الأخ، أو فلذة الكبد، هو الأخ علي الرفاعي. حثّني الكثير الكثير عن الكتاب وعن تلك الشخصية الاجتماعية الواعية التي تسعى دون كللٍ من أجل تنمية المجتمع وشبابه. شدّني كثيراً للاطّلاع، وهزّني دوماً من أجل الإبحار في عواصف السطور. خالني أغرق بين العلم الواسع ونجومية البحث، حتى كانت صورة الكاتب وهو يدخّن سيكاره يتأفأف من شدّة الحزن الكبير، الباحث في ثنايا الإدلاء، ساعياً للإلهام الوجودي. غبت في وعيٍ أبحث عن ثقافة الكاتب دون الاطّلاع على اسمه، وددتُّ من ذلك معرفة كيانه العلميّ، ومدى خرقه الفكريّ لما هو جديد نافع. لم أطّلع على الإسم متعمّداً، كي لا أميل نحوه إذا ما عرفته.

ذات يوم، وقد أنهيت قراءة الكتاب الموسوم 'مشكلات الشباب في المجتمع الكويتي: تشخيص للواقع واستكشاف آفاق المستقبل'؛ جلستُ عند زيارتي للكويت في إحدى الديوانيات المعروفة بالعوائل الكويتية العريقة، وشدّني الحديث عن ماكس فيبر، ودوركهايم وغيرهم من المجتمعانيين. تحدّثت كثيراً، وانسجمت بما هو أكبر، ورحت أسطّر ما مرّ بي من فصول الكتاب الذي نحن بصدده؛ ورحتُ أحاول مقارنة الحالة بالحالات التي تمرّ بمجتمعنا يومياً. متّخذاً مما نهلَ الكتاب من علمٍ، باباً للحديث والبحث عن الحلّ. وفي غمرة هذا البعد الذاتيّ المنسلخ من واقع الإنسان الإنسانيّ، خلدة التنفّس بحسراتٍ وتأوّهاتٍ فاقت في داخلي، وشجّعت الألم لأن يبدأ رحلة الحياة الموجعة؛ التفت إليَّ أحدهم وخاطبني 'لِمَ هذا الكتاب الرائع؟'

إنتابني الخجل لأقول لا أعرفه، ولكن جلس أمامي شخصٌ تتصف فيه كل معاني الدّماثة، والفقه المعرفيّ، وراح ساردا،ً ومعقّباً؛ وتارةً، منتقداً فصول الكتاب. سبّب في داخلي امتعاضاً وإنّي لا أعرفه، وناشدته أن لا يتهجّم ولو بنقدٍ بسيط على هذا العمل الجبّار؛ أجابني، وظيفتي أن أصحّح ما يُقال، وأبيّن ما يهدف إليه المقال في كل مقام ومآل. شدّني الحديث إليه ملتفتاً ولأسأله، أنت إنسان واعٍ فاهم تحمل من الأدب والأخلاق والثقافة ما يمكّنك من أن لا تبخس الناس أشياءهم؛ تمنيت أن يكون صاحب الكتاب موجوداً ليردّ عليك بما استطلت من نقدٍ. كانت أخلاقه تُخجلني وتجعل الكلمات تتوقف عن الحديث، لأني أحاول أن أبتلع غصّة نقد الكتاب تارةً، والتفاهم مع المتحدّث تارةً أخرى. لذا، لم تمر وهلة بابتسامة عريضة تحمل كل شفافية الأرض قال لي: 'لا بدّ لي من أن أطوّر، ولا بد لي من التحدّث بما هو جديد'. عندها لم أتمالك إعجابي بالكتاب وسألته كيف ومَن أنت؟ كانت الطّامة الكبرى، حين قال، أنه مؤلّف الكتاب الدكتور علي أحمد الطراح.

كانت صدفة لقائي به وهو منتقداً، وأنا مدافعاً مفاجأة علّمتني الكثير، وجعلتني أطّلع على الكتاب بواقع الناقد وليس المُعجب بما دأب ولاح من معرفة جديدة. فارقت الأحبة في الكويت عائداً منها نحو بيروت، فأعطتني فرصة القراءة، والتفحّص، والتمحّص في الكتاب العالي المقام بما حواه من علمٍ، وما حمل من إسمٍ لامعٍ في الاجتماع والتنمية والتربية. على أية حال، الكتاب دراسة ميدانية لمشكلات الشباب الكويتي. ولعلّ أبدع ما قرأت هو السماح للشباب بالكتابة عن مشاكلهم التي يعانون منها يومياً. ومن خلال خلاصة الأشياء تمكّن المؤلف من صياغة جملة من الأسباب وكيفية معالجتها.

بهذه الأطروحة حاول علي أحمد الطراح أن يدخل من أوسع الأبواب في قلب وفكر الشاب والشابة، داعياً عقلهم الباطن، وذاتيتهم المتعالية للحديث عن ما يجول في خواطرهم، وما تزدهر بها الأيام، وما يخلد إليه المستقبل. ففي الفصلين الأولين لم يبخل على القارئ المبتدئ اجتماعياً الذي هو على شاكلتي، لشرح مشكلة الدراسة ومفاهيمها. وهي بحقّ، قد أسّست لتعريفات أساسية، جابت، وتخلّلت البحث هنا، وهناك. صياغته للأساليب الإحصائية وتداعيات المشكلة قد أثبتت من خلالها الدلالات من أجل البوح في كيفية تحليل البيانات. هذا التحليل من دون أي شكّ خلق جواً بحثياً في الوصول إلى وضعٍ دقيقٍ للإجراءات المنهجية للبحث. الفصل الأول، بوضعه هذا مكّن القارئ من فهم الفعل الإحصائي وتعامله مع العيّنة. ووددت أن يسبغ الدكتور علي الطراح التوزيع الإحصائي والمعيار العلائقي لنتمكن من دمج وتبادل المشكلات، بوضع يمكّننا من تلاقي الحل في واقع المشكلة. ومع هذا فقد أسهمت إسهاماً فاعلاً في وضع الصورة التي لا تغيب حتى أمام الأعمى الذي يبحث عن الدواء الشافي.

جاء الفصل الثاني بأقسام خمسة، تناولت بصورة مفهومة، ودلالة علمية، باحثة عن الذات الموضوعية، ومناشدة واقعاً ملموساً. فقد خصّص الباحث للمشكلة المستقّة مما أدلى بها الشباب من مشاكل، وقارنها مقارنةً مدلوليةً في الخليج العربي والمجتمعات العربية، لينتقل للعلم والخبر لتناول المشكلات على المستوى العالمي. ولم يكن الهدف استعراضياً بقدر ما كان أسلوباً لمكْنَنَة العلم المجتمعي، وإثبات وجود قواسم مشتركة في بعض المجتمعات، واختلافات مفترقة في جوانب أخرى. وهو في هذا الجانب استخدم المفهوم التوافقي المجتمعي الذي يسدّد أهدافه باتجاه واحد، هو حل المعضلات، وبناء مجتمع خالي من المشاكل، لغرض تفعيل التنمية. فالكاتب قد أوضح في الفصل الأول مفهوم الشباب بحثياً، وفئاتهم العمرية، وكيفية التعامل في مصادر دراسة تكوينهم العقليّ، والمعرفيّ، والدراسيّ، والثقافيّ. فهو قسّم شرائح المشكلة، وعكسها بطورٍ مفهوميّ على الدراسات التي تخلّلها الفصل الثاني، ليُنشئ وحدة أكاديمية دراسية متناغمة، فكراً، ومفهوماً، ودراسة ميدانية. فتأمّل عزيزي القارئ البعد المعرفي الذي يتمتع به الكاتب، وروعته في نسج خيوط الحرير، بين مفاصل البحث، ومدى أهميته.

الدراسة الميدانية، لا بد من أن يكون في عمقها مسبّبات المشكلات، ومفاهيمها الخاطئة، التي قد لا يستوعبها الهدير العام من المجتمع. هناك العديد ممّن يُبهره نوع المصطلح، ويفخر باستعماله، إلا أنه قد لا يفهم حتى نطق حروفه. لذا عبّر المؤلف بصورة منسجمة مع المشكلة، وسارداً التعارف المختلفة ليرسو بعدها على أهمّ وأنضج مفهوم لهذا المصطلح. فهذا الفصل اتّصف ببُعده النظريّ، المعرفيّ، الأخلاقيّ، الاجتماعيّ؛ ولا يخلو أيضاً من مفاهيم تأثّر بها الشباب، وأثرت هي على الشباب والمجتمع. عالج علي الطراح مفاهيم الحداثة ومفاهيمها النظرية، وكيف فسّرها تاريخياً واجتماعياً دُعاتها، وما خلّفته من مشاكل أثّرت بما فيه من كل حق على المجتمع، لعدم وجود توعية شبابية، أو أسرية فسارت بتوازن مستمر في هبط المعنويات. وما أن انتهى من التنظير ومؤثراته الاجتماعية ومناقشة فحول علم الاجتماع، حتى غاص في العولمة ومديات نقل الشباب من محنةٍ إلى أخرى. محاولاً، بعد هذا الإطار الأدبيّ في أدبيات علوم الاجتماع، وعلم النفس، وعلاج المشاكل، رسم ملامح لا بد من تأطيرها، ليتمكّن العاملون من حلّ مشاكل الشباب من الانتباه إليها، ومعالجة ذاتية الأشياء المحيطة قبل معالجة ذاتية الشابّ المتمرّدة من دون فهمها لهذا التمرّد.

لأهمية الموضوع النظري، وعملية فهم موازين الدلالات المفاهيمية، كنت أتمنى أن يكون هذا الفصل فصلاً أول لبُعده الثقافيّ كي يكون القارئ ملمّاً بوقائع عالمية، لها أبعادها المصيرية مهما امتدّت رقع العالم. ولقد تمكّنّا من فهم غور العلاقة ما بين المفهوم الدلالي، والمشكلة ذات العلاقة بالتطور المجتمعي. على أية حال، جاء الفصل الرابع بعد هذا السرد والتفنّن النظري، وتوضيح المشكلة ومفاهيمها، ليُبيّن، ويقسّم المشكلات وفق الإستيضاحات الموزعة على العيّنة ومن ثم مناقشتها. وبطريقة علمية، تمكّن الباحث من تبويبها بمشكلات شخصية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية ليُنهي فصله الرابع بالحديث عن العولمة ومشكلات الشباب. هناك عناصر عديدة، وقياسات إحصائية عديدة، حرص الكاتب على تطويرها ورسمها بطريقة علمية تمكّنه من وضع ملامح إطار المشكلة، والعمل على حصرها وتسويتها، وإيجاد حلول لها. ويبدو أن الكاتب، ومن خلال دراساته الاجتماعية العديدة، تمكّن من معرفة دور العولمة، وعدم فهمها، ودمج المجتمعات المختلفة مع بعضها البعض، قد نبّهه إلى الترادف والاختلاف، في الشكل والعادات؛ إلّا أن علماء الاجتماع أصرّوا على معالجة المشكلة في كل العالم كوحدة واحدة. فهو يختلف معهم، لذا جاء الفصل الخامس معالجاً، ومفسّراً في عدة اتجاهات. فهو قبل الخوض في المشكلة تكلّم عن تحديد وسمات الشخصية الشابة، وماهية موقفها من التراث، والتقليد، والتحديث. عاكساً مفاهيمها على الثقافة الاقتصادية، والاجتماعية، والدينية، والسياسية للشباب. وبالتأكيد ناقش دور العولمة وتأثيرها في وضع المفاهيم والدلالات النقدية للمجتمع. وبهذا يعتبر الفصل الخامس بإحصائياته الميدانية فصلاً متميزاً فريداً من نوعه في البحث.

الباحث والكاتب الماهر والمهني لا يمكن أن يختم بحثه الميداني من دون علاجٍ، واستراتيجية يمكّنها أن تأخذ دورها في تنمية المشروع المستقبلي، مهما كان نوع البحث. لذا، أفرد علي الطراح فصله السادس والأخير من كتابه بفصل مهم عنْوَنَه بـ 'نحو استراتيجية للتعامل مع مشكلات الشباب الكويتي'. ويبدو أنه قد وضع فيه عصارة أفكاره التي نمّاها من خلال الدراسة تارةً، ومن الخبرة العملية تارةً أخرى. ولعلّه قد وضع نفسه في مكامن العنصر الأهم، وأراد تطبيقها على نفسه متّخذاً من حياته الشبابية درباً لفهم الشباب ومعاناتهم التي بعضها معنوياً والبعض الآخر لربما مادياً. لذا، أصرّ على ضرورة المعالجة في مجال التنشئة الاجتماعية، وفي المجال التعليمي والأسري. وهذه المجالات الثلاثة بما لا يقبل الشك تؤدي دوراً هاماً في سبك شخصية الشباب قبل ولوجهم في معترك الحياة. فإذا ما كان التعليم مسبوكاً بصورة تربوية وليس تعليمية فحسب، سيكون المردود الاجتماعي على المجتمع وبنائه؛ لا نقول خالياً من المشاكل، بل بمشاكل يمكن حلّها بصورة بسيطة وغير غريبة.

علي الطراح لم يبخل في وصف الإعلام وأولويات دوره في حل المشاكل الأساسية، معتبراً العولمة والحداثة، ودور التواصل الاجتماعي ذو مؤثرات حيوية بصورة وأخرى. ومن هنا نجده يدعو إلى ضرورة تنظيم الإعلام والعمل على التوعية من خلاله، ومراقبته بصورة رسمية، وهو ما قد يحقق سياسة مجتمعية لمواجهة مشكلات الشباب. وفي نهاية المطاف لا بد لنا من القول بأنه كتاب جمع فيه الخبرة، والعلم، والمعاناة الداخلية في قلب علي الطراح الودود الداعي لبناء مجتمع أفضل. بورك، ونأمل منه نتاجاً آخراً ذا سعة، وفطنة بالعلم، والبناء، والتربية المجتمعية.

كتب: هيثم الناهي

تعليقات

اكتب تعليقك