تعقيدات التقاضي أمام 'منظمة التجارة':بقلم محمد الصياد

الاقتصاد الآن

743 مشاهدات 0


تبرز المنازعات التجارية بين الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بشأن سلعة القطن، كأحد تجليات استعصاءات جولة الدوحة (الجولة التاسعة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية المتعددة الأطراف في إطار منظمة التجارة العالمية)، وهي الجولة التي أطلق عليها بالمناسبة جولة الدوحة للتنمية أو أجندة الدوحة للتنمية، والقصد أن تكون مخرجات هذه الجولة محققة لبرامج وأهداف التنمية في الدول النامية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية التي كانت عبرت عن عدم رضاها من نتائج جولة أوراغواي (الجولة الثامنة) من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في اطار الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية التي استمرت زهاء ثماني سنوات (1986-1994).

وتتمثل المشكلة في الدعومات أو الإعانات الحكومية التي توفرها الحكومات لمنتجي القطن في العالم والتي تتسبب في اختلال شروط التبادل التجاري وتؤثر سلباً في التنمية في الدول النامية . ومع أن تجارة القطن لا تشكل سوى 1 .0% من مجمل التجارة السلعية العالمية، إلا أن إيرادات القطن بالنسبة لبعض الدول النامية تشكل أكثر من ثلث عائداتها من الصادرات . وبينما لا يشكل القطن سوى 4 .0% من الصادرات السلعية الأمريكية، إلا أن الولايات المتحدة هي لاعب رئيس في أسواق القطن العالمية، حيث إن صادراتها من القطن تشكل ثلث الصادرات العالمية من القطن . وبسبب هذا الغبن المتمثل في اللاتوازن في العوائد لدى منتجي القطن المختلفين حول العالم، فقد كان لابد لقضية الإعانات الحكومية أن تكون على الأجندات الساخنة لمنظمة التجارة العالمية.

وقد بدأت القضية في 2002 عندما أثارت أربع دول إفريقية مصدرة للقطن هي: بنين، بوركينا فاسو، تشاد ومالي (تُعرف باسم C-4) والبرازيل قضية الدعم الذي توفره بعض الدول المنتجة للقطن لمصدريها ما أدى إلى انخفاض أسعار القطن وخسارتها لعوائد تصدير مستحقة . وفي حين اتبعت البرازيل الإجراءات المتبعة في التقاضي لدى منظمة التجارة العالمية بدءاً بإجراء التفاوض والتشاور مع الدولة المدعى عليها وهي هنا الولايات المتحدة ثم رفع الدعوى إلى جهاز فض المنازعات في المنظمة الذي عين هيئة التقاضي لنظر الدعوى وإصدار الحكم ضد الولايات المتحدة بإلغاء الدعم الذي سرعان ما استأنفته واشنطن وخسرته أيضاً فإن الدول الأربع سلكت طريقاً آخر وذلك بطلبها تعويضاً مالياً، إلا أن هذا الطلب ضاع وسط إدخاله في دهاليز مفاوضات جولة الدوحة.

وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه، من حيث استحواذ الولايات المتحدة على ثلث صادرات القطن العالمية البالغة نحو 30 مليار دولار، وكذلك “بفضل” الدعم الذي يتلقاه مزارعو القطن الأمريكيون من حكومتهم والذي يتراوح ما بين 2-4 مليار دولار سنوياً . وهناك أيضاً الدعم الذي يتلقاه مزارعو القطن الأوروبيون من مفوضية الاتحاد الأوروبي والبالغ نحو مليار دولار سنوياً.

المثير في هذه القضية التجارية الدولية أنها تصلح لأن تكون نموذجاً لطبيعة علاقات القوى الاقتصادية والتجارية غير المتوازنة وغير المتكافئة داخل منظمة التجارة العالمية . فإدراكاً من البرازيل بأن الحكم النهائي الذي صدر لصالحها من جهاز فض المنازعات في المنظمة، والذي جاء منقوصاً، حيث كان التعويض الذي طالبت به البرازيل في دعواها هو 3 مليارات دولار بينما قضى الحكم باستحقاقها للتعويض عن خسائر مصدري القطن لديها بسبب الدعومات الأمريكية، بقيمة 830 مليون دولار فقط إدراكاً منها لصعوبة تحصيل مستحقات تعويضها، وذلك لأن الحكم، كما هي إجراءات التقاضي والأحكام الصادرة عن المنظمة، يعطي للبرازيل الحق بتحصيل ضرائب إضافية على واردات السلع الأمريكية ليس فقط على السلعة الأمريكية النظيرة المستوردة من الولايات المتحدة، أي القطن، وإنما يعطيها الحق أيضاً في تحصيل ذلك المبلغ من التعويضات التي نص عليها الحكم من سلع أخرى مستوردة من الولايات المتحدة، لذا فإن البرازيل أرادت أن تجعل من إجرائها المضاد مؤلماً ومجبراً الولايات المتحدة على التفاوض، فشملت بضرائبها الإضافية كما سمح بذلك حكم جهاز فض المنازعات سلع حقوق الملكية الفكرية وسلع الخدمات . وهذا بالفعل ما اضطر الولايات المتحدة للتفاوض مع البرازيل والتوصل معها إلى مذكرة تفاهم في شهر يونيو/ حزيران 2010 جنّبت الطرفين الدخول في حرب تجارية، حيث تضمنت المذكرة التزاماً أمريكياً بإجراء تعديلات على برنامجها لضمان ائتمان الصادرات الذي يحصل بموجبه المصدرون الأمريكيون على دعومات مالية تمكنهم من المنافسة السعرية السلعية في الخارج، وإنشاء صندوق لتقديم الدعم الفني وبناء القدرات لقطاع القطن البرازيلي.

ومع أنه اتفاق هزيل قياساً للفترة التي استغرقها النزاع التجاري بين البلدين بشأن صادراتهما من القطن، إلا أنه على الأقل ضَمِن تحصيل بعض حقوق البرازيل بينما خرجت الدول الإفريقية الأربع التي تشاطر البرازيل نفس المعاناة من إعانات التصدير الأمريكية، من المسألة خالية الوفاض.

وهكذا فإن قضية القطن التي مازالت إلى اليوم محور خلاف وتجادل بين الدول النامية المنتجة والمصدرة للقطن والدول الرأسمالية الكبرى المنتجة والمصدرة له، حيث تواصل الأخيرة تمسكها بموقفها الرافض لإجراء تخفيضات على السقوف الجمركية المفروضة على وارداتها القطنية هذه القضية تصلح مثالاً للتفكر وأخذ العبر من تعقيدات نظام التقاضي في منظمة التجارة العالمية على خلفية مواضيع الإعانات الحكومية والإغراق، وهي قضية تثبت بأنه حتى لو توفرت لدى الدولة المتضررة سواء من الإعانات الحكومية أو من ممارسات الإغراق، القرائن المادية الضامنة لنجاح دعواها فإن عليها أن تتوقع تعقيدات إجراءات التقاضي وطول أمد نظر دعواها قبل الفصل فيها من قبل جهاز فض المنازعات في المنظمة . ولعل هذا هو ما يجبر بعض الدول على اللجوء للتسويات الجزئية بدلاً من السير في دعوى التقاضي.

الان-ووكالات

تعليقات

اكتب تعليقك