كاتب عدل!
زاوية الكتابكتب سبتمبر 28, 2012, 5 م 1587 مشاهدات 0
جلست ذات مساء عند رجلٍ مسن ، يعتمر قبعةً صوفية و معطف من الجلد طويل قديم الطراز، ربما ما زال يرتدي ذلك المعطف منذ ما يزيد على خمسون عاماً تقريباً و ربما أكثر من ذلك ، أمامه مكتب صغير وقد علق عليه ورقة مكتوبٌ عليها (( كاتب عدل )) .
فبدأت بالسخرية منه قائلاً له (( يا عم ما هي شهاداتك العليا التي منحتك هذه الوظيفة و بت كاتباً للعدل ، و هل توزع منشورات ضد الأنظمة مكتوبٌ في أعلاها عدل )) ابتسم و تقاسيم وجهه تنبأ عن غضبٍ شديد يجاهد في كتمه ، ثم قال ادفع لي بعض المال لأكتب لك عريضة عدل تقدمها للمحكمة في حال لديك مشاكل دنيوية .
فقلت لنفس سوف أحتال عليه و أحرجه ، فهو رجلٌ طاعنٌ بالسن و لن يستطيع مجاراتي و إن اجتهد ، ولا أجد ضيراً ببعض التسلية .
فأجبته بنعم يا عم العدل و كتاباته لدي سلسلة من المشاكل التي تحتاج لكتابة عرائض .
فالمشكلة الأولى أنا أبحث عن وظيفة راقية براتب محترم ، و أما الثانية فأنا أبحث عن زوجة جميلة تشاركني حياتي ، و أما الثالثة فاعلم بأني أبحث تعليم راقي لأولادي بالمستقبل ، و إن كنت مصراً على كتابة عرائض العدل أخبرك بأنني أرغب بمستوى طبي راقي علي أضمن به العلاج المناسب في الوقت المناسب ، و لا أحب أن أتسبب لك في الأذى عندما يزورونك زواراً غير مرغوبٍ فيهم قبل نافلة الفجر بساعة ، لأنك كتبت لي عريضة عدل تسمح لي بالترشح لمنصب قائد الأمة العربية و العبرية معاً .
فلم يجعلني العم كاتب العدل أنتظر طويلاً ، فقد توجه من فوره لأوراقه و قد شرع في كتابة العريضة بعد أن سألني عن اسمي ، فزاد تصرفه فضولي لأعرف ماذا يكتب و كيف سيتخلص من هذا الزائر الغير مرغوبٌ فيه و أعني هنا نفسي أنا فأنا زبونٌ لا عمل لديه وقد حظر ليهزأ .
بعد دقائق معدودة أشعل سيجارةً و بدا عليه الاندماج في كتابة العريضة ، و كأنه لا يراني أمامه أو حتى يسمع أنفاسي وهي تتسابق مع نظراتي لأوراقه المتهالكة الصفراء محاولاً قراءة ما يكتب بقلمه الجاف .
و بعد مضي الكثير من الدقائق المهدورة دون تسلية ، صرت ألوم نفسي على فعلتي ، فأنا لم أجد أمامي من أمازحه و أتسلى به غير هذا الرجل الطاعن بالسن ، فقلت له يا عم أنا ذاهب !
رفع رأسه بصمت و هو ينفخ دخان السجائر بوجهي و يرمقني بنظرات شلت حركتي و تمتم قائلاً أنا أسطر الخاتمة إسمط قليلاً .
و بالفعل سلمني بعض الأوراق التي جاء في مقدمتها (( سعادة القاضي محمد حميد أسد تحية طيبة و بعد أكتب إليكم هذه العريضة التي يقدمها لكم الإنسان التائه محمد حميد أسد )) اعلم بأن قانون العدل الإلهي يفوق كل عدل القانون الوضعي ، و إليكم سعادة القاضي طلب بسرعة النظر بالمظلمات التالية المذكورة بعرائض العدل المرفقة مع كتابي هذا .
أولاً المذكور أعلاه لم يطلب العلم الكافي ليكون في وظيفة محترمة و أنا أرجوا منكم أن تحكموا عليه بالعمل لدي بوظيفة ساعي بريد القضاء براتب يومي .
ثانياً حيث أن المذكور أعلاه أعزب و لم يسبق له الزواج أتقدم له بالتماس استرحام و أزوجه ابنتي و أرجوا من سعادتكم التصديق على عقد الزواج بمهرٍ مؤجل يدفع بالتقسيط المريح لمدة عشرون عاماً دون فوائد .
ثالثاً حيث أن المذكور أعلاه سيرزق من الأبناء ما هم في علم الله ، و ربما لا يكتب له من هذا الرزق ، و هو أيضاً في علم الله ، فأرجو أن تؤجل هذه القضية إلى أن يتم توفير جميع الإثباتات الدالة على وجود الأبناء و حضورهم بصفتهم و شخصهم .
رابعاً سعادة القاضي إن المذكور أعلاه يطالب سيادتكم بتحديد نصيبه و عائلته من الدواء الذي لم يعرف بعد له داء ، و هذا طلبٌ يعطل سيادتكم النظر فيه فأرجو من سيادتكم شطب القضية من سجل القضايا المدنية لعدم جدوا الدعوة المقدمة .
خامساً سيدي القاضي أرجوا من سماحتكم توقيع أقصى درجات العقوبة على المذكور أعلاه و تعليقه من قدميه أمام الناس ، فالمذكور يطمح لزعامة الأمتين العربية و العبرية مما سيجعل منه طاغية جديد يهلك الأمتين ، بادئً بي أنا مسئوله بالعمل لأنني سوف أضغط عليه حتى يتقن عمله ، و ألح بطلبي سيدي القاضي علي بذلك أرجعه لصوابه قبل أن يجني على زوجته ابنتي و يحرق فؤادها بطلاقها متناسياً صبرها معه فهو سيتجه إلى تنمية العلاقات الثنائية مع مختلف فتيات الأمتين اللاتي سيجتمعن حوله لينفق عليهم خيرات الأمتين ، حارماً أبنائها من حقوقهم القانونية و الشرعية بالعمل و الزواج و رزق الأبناء و التعليم و توفير العلاج ، كما سيعمد لقمع المفكرين ليضمن استمراره بالسلطة منفرداً دون منازع .
تركت المكان وقد شغلت بما كتبه ذلك الرجل الفطن الذي علمته الحياة ما لم أتعلمه في المدارس و قد شغلتني فكرة تعليقي من قدمي أمام الناس متأرجحاً دون رحمة .
محمد حميد أسد
تعليقات