هل نملك ثقافة الإعتذار ؟
منوعاتأكتوبر 25, 2012, 11:31 ص 6817 مشاهدات 0
يقول : ستيفن ر.كوفي
كنت في صباح يوم أحد الأيام في قطار الأنفاق بمدينة نيويورك وكان الركاب جالسين في سكينة بعضهم يقرأ الصحف وبعضهم مستغرق بالتفكير وآخرون في حالة استرخاء, كان الجو ساكناً مفعماً بالهدوء !!
فجأة ... صعد رجل بصحبة أطفاله الذين سرعان ما ملأ ضجيجهم وهرجهم عربة القطار ... جلس الرجل إلى جانبي وأغلق عينيه غافلاً عن الموقف كله .. كان الأطفال يتبادلون الصياح ويتقاذفون بالأشياء ,,, بل ويجذبون الصحف من الركاب وكان الأمر مثيراًً للإزعاج ..
ورغم ذلك استمر الرجل في جلسته إلى جواري دون أن يحرك ساكناً ..!!؟؟
لم أكن أصدق أن يكون على هذا القدر من التبلد .. والسماح لأبنائه بالركض هكذا دون أن يفعل شيئاً ..!؟
يقول (كوفي) بعد أن نفد صبره .. التفت إلى الرجل قائلاً : .. إن أطفالك ياسيدي يسببون إزعاجا للكثير من الناس ..
وإني لأعجب إن لم تستطع أن تكبح جماحهم أكثر من ذلك ..!!؟
إنك عديم الإحساس ..فتح الرجل عينيه ...
كما لو كان يعي الموقف للمرة الأولى وقال بلطف :
.. نعم إنك على حق ...يبدو أنه يتعين علي أن أفعل شيئاً إزاء هذا الأمر .. لقد قدمنا لتونا من المستشفى .....حيث لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة منذ ساعة واحدة .. إنني عاجز عن التفكير ..
وأظن أنهم لايدرون كيف يواجهون الموقف أيضاًً ..!!
يقول ( كوفي ) .. تخيلوا شعوري آنئذ ؟؟
فجأة امتلأ قلبي بآلام الرجل وتدفقت مشاعر التعاطف والتراحم دون قيود ..
قلت له : هل ماتت زوجتك للتو؟
... إنني آسف .... هل يمكنني المساعدة ...؟؟
لـــــــــقد ... تغيــــــــــر كل شيء في لحــــــــــظة.. !!
انتهت القصة ... ولكن... ما انتهت المشاعر المرتبطه بهذا الموقف في نفوسنا ...
نعم ...كم ظلمنا أنفسنا حين ظلمنا غيرنا .. في الحكم السريع المبني على سوء فهم وبدون أن نبحث عن الأسباب اللي أدت إلى تصرف غير متوقع من إنسان قريب أو بعيد في حياتنا ..
وسبحان الله .. يوم تنكشف الأسباب .. وتتضح الرؤية .. نعرف أن الحكم الغيبي غير العادل الذي أصدرناه بلحظة غضب ,له وقع أليم على النفس ... ويتطلب منا شجاعة للاعتذار .. والتوبة عن سوء الظن ..
هذي القصة .. تذكرنا بحوادث كثيرة في حياتنا .. كنا في أحيان ظالمين وفي أحيان مظلومين .. ولكن المهم في الأمر .. أن لانتسرع في اصدار الأحكام على الآخرين ...نعتذر ... وعندما نخطئ
ويوم يقع علينا الظلم .. نغفر
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
سامح صديقك إن زلت به قدم فليس يسلم إنسان من الزلل
نحتاج كثيرا لأن تكون ثقافة الاعتذار جزءا من تكوين علاقاتنا الاجتماعية بحيث لا نتردد في الاعتذار ولا نخجل او نعتبره ضعف منا.
ما المشكلة في أن تعتذر لطفلك او ابنك او ابنتك أو زوجك أو السائق أو العامل ، الاعتذار لا يكون فقط لمن هو أعلى مكانةً منك أو منصباً أو سناً كرئيسك مثلاً ، نحن في حاجة لثقافة الاعتذار وفق اخترام الآخر وليس الخوف من الآخر.
جميلٌ منا أن نشعر بفداحة أخطائنا بحق الآخرين ولكن الأجمل أن يترجَم هذا الشعور لواقعٍ ملموس... واعترافٌ بالخطأ ..ومن ثم اعتذار مغلف بشموخ نفس أحيطت بالانكسار فقط لمن اقترفنا بحقه مالايليق به...
قديما لم يجيدوا العرب فن الاعتذار لصلافة حياتهم ..وربما لتعصبهم واعتباره ضعفٌ وإهانةٌ ومنقصة ..
النابغة الذبياني علم من أعلام الشعر العربي في العصر الجاهلي عاش في بلاط المناذرة زمنا نديما للنعمان بن المنذر يمدحه فيجزل له العطاء وبصحبته المنخل اليشكري صديقه الصدوق.
برع النابغة في شعر المديح والاعتذار ولم يكن العرب قبله يجيدون فن الاعتذار للأسباب السابق ذكرها ..
حتى كانت قصة المتجردة زوج النعمان وذاك أنها دخلت مجلس النعمان فسقط نصيفها (لباس رأسها) ، فطلب النعمان من النابغة أن يصف المتجردة وكانت على قدر من الجمال فقال قصيدة رائعة من أبياتها :
أمن آل مية رائح أومغتد
عجلان ذا زاد وغير مزود
وبعد أن أكمل النابغة قصيدته قال المنخل اليشكري :والله ما قالها الا مجرب ..
فغضب النعمان وأهدر دمه ؛وكان هروبه للغساسنة ومن هناك بدأ ببعث أعتذارياته للنعمان ومن ذاك اليوم نشأ فن الأعتذار في الشعر العربي
ومن رقيق اعتذاره :
أتاني أبيت للعن أنـك لمتنـي
وتلك التي أهتم منها وأنصـب
فبت كـأن العائـدات فرشننـي
هراسا به يعلى فراشي ويقشب
حلفت فلم أترك لنفسـك ريبـة
وليس وراء الله للمرء مذهـب
لئن كنت قد بلغت عني خيانـة
لمبلغك الواشي أغش وأكـذب
ولكنني كنت امرأ لـي جانـب
من الأرض فيه مستراد ومذهب
ملوك وإخوان إذا مـا أتيتهـم
أحكـم فـي أموالهـم وأقـرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
فلم ترهم في شكر ذلك أذنبـوا
فلا تتركنـي بالوعيـد كأننـي
إلى الناس مطلي به القار أجرب
ألم تر أن الله أعطـاك سـورة
ترى كل ملك دونهـا يتذبـذب
فإنك شمس والملـوك كواكـب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكـب
ولست بمستبق أخـا لا تلمـه
على شعث أي الرجال المهـذب
فإن أك مظلوما ؛ فعبد ظلمتـه
وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتـب
وقال ابن الرومي معتذرا:
يا أخي أين ريـع ذاك الإخـاء
أين ما كان بيننا مـن صفـاء
أنت عيني وليس من حق عيني
غض أجفانهـا علـى الأقـذاء
يقول ابن زريق معتذرا :
لا تــعــذليـــه فـــإن العـــذل يوجعه
قـد قلت حقـاً ، ولكـن ليس يسمعه
جــاوزت فــي لومـــه حــداً أضـر بـه
مـــن حيــث قــدرتِ أن اللـوم ينفعــه
فاستعملي الرفق في تأنيـبه بــدلاً
مــن عذله، فهو مضنى القلب موجعه
يكفيه من لوعة التـشـتـيت أن لـــه
مـــن النـــوى كـــلَّ يــوم مــا يـروّعــه
مــا آب مـــن سفــر ٍ إلا وأزعــجــه
رأي إلـــى سفــر ٍ بالعـــزم يــزمـــعـه
كــــأنمـــا هـو في حل ٍ ومـرتحــل
مـــوكّـــل بــــفــضـــاء الله يــــذرعـــه
إنـي أوســع عــذري فــي جنـايتـه
بــالبـيـن عنـه ، وجرمي لا يوسعه
رُزقت ملكــاً فلــم أحسن سياسته
وكــلُّ مـن لا يسوس المُلك يخلعه
ومـــن غــدا لابساً ثوب النعيــم بلا
شـكر ٍ عليــه ، فــإن الله يــنــزعــه
كم قائلٍ لي ذقت البين ، قلت له:
الــذنــبُ ذنــبـــي لــسـت أدفــعــه
ألا أقــمــت فــكـان الرشد أجمعـه
لــو أنـنـي يــوم بــان الـرشد أتبعـه
وما رأيكم بهذا النوع من الإعتذار !!
قول المؤمل:
شكوت ما بي إلى هندٍ فما اكترثت
يا قلبها أحديـدٌ أنـت أم حجـر
إذا مرضنـا أتيناكـم نعـودكـم
وتذنبـون فنأتيـكـم ونعـتـذر
تعليقات