على صانعي السياسة القبول بالعالم كما هو بقلم صامويل بريتان

الاقتصاد الآن

633 مشاهدات 0



من العبارات التي كثيرا ما نسمعها: ينبغي لألمانيا أن تتخذ إجراءات توسعية. وينبغي للولايات المتحدة أن تتخذ خطوات أكبر لتقليص العجز في الميزانية. وينبغي للصين أن توسع الطلب المحلي وتستورد أكثر من ذي قبل. والبلدان النامية التي من قبيل الهند يجدر بها أن تكون أكثر ترحيبا برأس المال الأجنبي. وينبغي للحكومة البريطانية أن تكبح جماح حماسها للتقشف.

خذ أي تقرير اقتصادي تقريبا وستجد هذه التوصيات وأخرى مشابهة لها. اقرأ البيانات والتصريحات الدولية من الهيئات رفيعة الشأن وسترى أنها موجودة كذلك. المشكلة هي أن هذه التوصيات لن تُنَفَّذ. والأسوأ من ذلك أن النصائح التي توصي بإجراءات انكماشية، أو تقليصية يمكن فرضها على البلدان التي تعاني صعوبات – مثل البلدان الضعيفة في الاتحاد الأوروبي، التي هي ضحية لما يسمى الترويكا المؤلفة من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وليس هناك من سبيل لفرض نصيحة الهيئات الثلاث المذكورة على البلدان القوية ذات الفائض. بالتالي، النظام بأكمله يتسم بتحيز انكماشي في الوقت الذي تكون فيه حاجة العالم إليه أقل ما يمكن.

البلد الكبير الوحيد الذي اتخذ إجراءات تنسجم إلى حد ما مع الإجماع الدولي هو اليابان، التي فاجأت الأسواق وأسعدتها بالإعلان عن سياسة نشطة من التسهيل النقدي. لكن السبب في ذلك لم يكن الإجماع الدولي، وإنما جاء لأن هناك حكومة جديدة قررت أن نسعى لوضع نهاية لسنوات من الركود. وتنفي السلطات اليابانية أن التراجع في سعر صرف الين كان سياسة مقصودة بدلا من كونه رد فعل آني من السوق. وبالمثل، كاد الفائض الصيني في الحساب الجاري أن يختفي، ويعود السبب في ذلك إلى تقلص الأسواق أمام صادرات الصين أكثر من كونه نتيجة للضغط الدولي.

تعطينا ألمانيا مثالا آخر على انعدام فاعلية الإجماع. فلسنوات كثيرة كانت ألمانيا تتعرض للضغط من أجل دفعها نحو التوسع في الإنفاق في الداخل. وأنا لا أريد أن أتبنى عقيدة ما قبل الكينزية الجامدة التي هبطت على السياسة الاقتصادية الألمانية، التي تعتبر جائزة هزيلة على الحملة النشطة التي قام بها كينز في العشرينيات ضد عبء التعويضات التي فرضت على ألمانيا في معاهدة فرساي. فالإجراءات الرامية إلى أن تجعل الميزانية المتوازنة مطلبا دستوريا تشير إلى أن زعماء ألمانيا استوردوا النزعة المحافظة الاقتصادية من جيرانهم الفرنسيين. ويمكن للسياسة الاقتصادية أن تسترخي إلى حد ما بعد الانتخابات التي ستجرى في ألمانيا هذا العام، لكن لا تحبس أنفاسك في انتظار تغيير كبير.

ذلك لأنه لا يمكن القول: إن ألمانيا كانت مخطئة تماما في رفضها للحكمة السائدة. فمعدل التضخم فيها يقل قليلا عن 2 في المائة. وقد سجلت معدل نمو سلبي في الربع الأخير من 2012، لكن من شبه المؤكد أن هذا سيتبين أنه كان رقما شاذا لا ينطبق على المجموع. ثم إن نسبة البطالة فيها، البالغة 6 في المائة إلا قليلا، ربما لا تكون مرضية تماما، لكنها أدنى بكثير من معدل البطالة في الولايات المتحدة أو بريطانيا، بل وحتى أدنى من المعدل الموجود في أي بلد من شركائها في الاتحاد الأوروبي، باستثناء هولندا، التي تعتبر متحالفة معها بصورة وثيقة. لكن الأمر الملفت للنظر إلى حد بعيد هو الفائض في الحساب الجاري لديها، الذي تشير التقديرات إلى أنه بحدود 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. (والحقيقة التي تقول: إني حتى أعرف هذه الحقيقة تبين لنا مدى بعد منطقة اليورو عن أن تكون اتحادا اقتصاديا حقيقيا. فهل يستطيع أحد أن يخبرني عن ميزان المدفوعات في ساسِكس، أو شليزفيج هولشتاين، أو أوكلاهوما؟). وإذا كان من الممكن بمعجزة عودة المارك الألماني القديم فسيكون من المؤكد أنه سيعوم إلى الأعلى. وقد أشار بعضهم إلى أنه يجدر بألمانيا أن تترك منطقة اليورو 'بصفة مؤقتة' وتعود إليها بسعر أعلى. وهذا مثال ممتاز على الاقتصاد من دون السياسة. ولو اتُّبِعتْ هذه النصيحة، فمن شبه المؤكد أنه لن يكون يورو يمكن العودة إليه، وهو أمر لا يقلقني، لكنه ينبغي أن يُقلِق المتحمسين للعملة الموحدة.

النقطة العامة التي أريد أن أتقدم بها هي أن من الأفضل اعتبار السياسة الاقتصادية الألمانية أحد المعطيات، بدلا من محاولة تقديم المواعظ للبلد للتحول إلى شيء آخر. وقد اتضحت هذه الفكرة في مؤتمر بون سيئ الطالع في عام 1968، حين طالب روي جنكِنز، وزير المالية البريطاني في ذلك الحين، (لكن دون جدوى) برفع قيمة المارك الألماني ليكون مكمِّلاً للتخفيض في قيمة الجنيه الاسترليني الذي جرى قبل ذلك بفترة. وكانت تلك المرة الوحيدة التي أذكر فيها أن جنكِنز، ذا المزاج الرصين في العادة، فقد أعصابه وصفق الباب عند خروجه قائلاً: 'ليس لدي ما أقول'. وفي نهاية الأمر قامت ألمانيا فعلا برفع قيمة العملة بصورة متواضعة في الوقت الذي كان يناسبها هي. وتم الاهتمام بالمشكلة في نهاية المطاف بعد عام 1973 من خلال الفترة القصيرة للغاية التي جرى فيها تعويم أسعار الصرف.

وفي النهاية الحكومات بحاجة إلى التصرف 'على نحو أناني' من أجل حماية مواطنيها. وتوجد بطبيعة الحال طرق جيدة وأخرى رديئة لفعل ذلك. والطريق الخاطئ الذي تم اتخاذه في الثلاثينيات كان من خلال تكاثر القيود التجارية، والسياسات الاقتصادية القائمة على توظيف الناس لمجرد عدم إبقائهم عاطلين عن العمل، وما إلى ذلك.

والجانب الحرج هو ما يعرَف باسم 'حروب العملات'، أو بالاسم الآخر الثقيل 'تخفيض العملات على نحو تنافسي'. وإذا كان السلاح الرئيس هو السياسة النقدية، فإن الضرر الناتج عن ذلك سيكون صغيرا. والواقع لو أن الجهود السائرة في هذا الاتجاه أدت إلى إلغاء بعضها بعضا، فإن الأثر العام لها يمكن أن يكون توسعا نقديا دوليا نحن في أمَسّ الحاجة إليه.

والفكرة العامة التي أريدها من ذلك هي أن صانعي السياسة الوطنية -باستثناء اللقاء في اجتماعات دولية رفيعة المستوى- يجدر بهم أن يعاملوا سلوك الحكومات الأخرى على أنه يتسم بما يصفه علماء الاقتصاد الرياضي بأنه أمر خارجي. بعبارة أخرى، من الأفضل لهم أن يقبلوا بالعالم كما هو.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك