السيول في المحافظات.. حان وقت تفعيل الإدارة المحلية بقلم د. عدنان بن عبد الله الشيحة

الاقتصاد الآن

737 مشاهدات 0



كشفت الحالة الجوية الاستثنائية التي تتعرض لها كثير من مناطق السعودية أن الخدمات العامة دون المستوى المطلوب! وهنا يبرز تساؤل جوهري: لماذا هذا الإخفاق في أداء الأجهزة الحكومية على الرغم من الإنفاق السخي للدولة؟ البعض يختزل الإجابة في الفساد الإداري، وهو بلا شك أحد الأسباب الرئيسة، لكنه ليس السبب الوحيد.

إن اختزال المشكلة التي تتعرض لها المدن من جراء السيول في الفساد الإداري يبسط المشكلة ويسطحها ولا يجعلنا نرى الأمور من زوايا مختلفة وبعمق أكبر. وهكذا ندور في حلقة مفرغة دون التعامل مع جذور المشكلة ومن ثم نحرم الوصول إلى حلول ناجعة. فالردود العاطفية والانتقادات اللاذعة جميعها تتمحور حول الفساد الإداري هذا شعبيا، أما مؤسسيا ممثلة في هيئة كافحة الفساد، فهناك ضبابية في التقارير وغياب للحقائق والأرقام والإحصاءات في تحديد كيف ومن ومتى وأين يكمن الفساد. ويستمر الوضع في التعامل مع أعراض مشكلة إخفاق الأجهزة الحكومية في أدائها وليس مسبباتها. وأهم تلك المسببات غياب التخطيط الاستراتيجي ومعايير ومؤشرات الأداء والشفافية والمساءلة والمحاسبة. هذه أساسيات في تطوير العمل الحكومي وتحقيق الأهداف التنموية الوطنية والوصول إلى مستويات عالية من الأداء، ليس فقط من أجل رفع معيشة المواطن والحفاظ على صحته وسلامته، لكن أيضا المساهمة في تطوير الاقتصاد الوطني ما يعود بالنفع على الأجيال الحاضرة والقادمة.

الحقيقة التي تجب مواجهتها والتحدي الأكبر الخفي يكمن في أن البيروقراطيات العامة المركزية مُنحت صلاحيات كبيرة تفوق طبيعة سلطتها التنفيذية إلى دور التشريع! حتى أصبحت تحتكر صناعة القرارات العامة دون منازع بحصانة كاملة من المساءلة والمحاسبة الاجتماعية من قبل المجالس النيابية سواء مجلس الشورى أو مجالس المناطق والمحلية والبلدية. هذا ما يجعل القرارات البيروقراطية المركزية (في معظمها) تكون دون مستوى توقعات المواطنين ولا تستجيب لاحتياجاتهم الفعلية ولا تسهم في التنمية المحلية. وكيف للقرارات المركزية أن تستجيب لاحتياجات سكان المناطق والمحافظات والمدن وهي بعيدة عنهم مكانا واهتماما وموضوعا؟! هناك وهم يتلبس البعض في أن القرارات تعتمد على المعايير الفنية وحسب، وبالتالي يتم الاعتماد على آراء التكنوقراط ويتم منحهم كامل الصلاحيات في التقرير نيابة عن الناس فيما يتعلق بمصالحهم واحتياجاتهم. وهذا فهم خاطئ وخطير، خاصة في ظل المتغيرات السكانية والحضرية والاقتصادية والثقافية، فالقرار العام لا يعتمد فقط على النواحي الفنية، بل هناك جانب سياسي معياري قيمي ويلزم أخذه في الاعتبار، وإلا أصبح القرار ناقصا يقصر عن تحقيق مقاصده وأهمها تلبية احتياجات المواطنين في المحليات كما يريدون ويطلبون، وليس كما يراه البيروقراطيون البعيدون عنهم آلاف الكيلومترات. وإن كان في مرحلة من مراحل التطوير التي تشهدها السعودية استوجب التخطيط المركزي لضمان تنمية وطنية شاملة، إضافة إلى أن المحليات لم تكن تمتلك المقومات البشرية والإمكانات المادية لصناعة القرار المحلي في ذلك الوقت، إلا أن ذلك تغير وأصبح سكان المدن أكثر نضجا، وبالتالي لا يفترض الاستمرار على النهج المركزي نفسه، والشاهد على ذلك المشاكل التي تواجهها المدن من جراء الأمطار الغزيرة التي كشفت عن إخفاق الأجهزة المركزية في تنفيذ مشاريع البنى التحتية وتقديم خدمات عند حدودها الدنيا المقبولة.

لم يعد مقبولا تهميش سكان المحليات وعدم إتاحة الفرصة لهم في المشاركة في صنع القرارات التي تهمهم وإدارة شؤونهم المحلية. وربما قال قائل إن هناك مجالس نيابية يشارك فيها المواطنون كمجالس المناطق والمجالس المحلية والبلدية، إلا أن تلك المجالس في وضعها الراهن صورية لا تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي ولا تمتلك صلاحيات وسلطات كافية تمكنها من إدارة الشؤون المحلية. تفعيل هذه المجالس النيابية ومنحها صلاحيات وأدوارا ليس من باب الترف السياسي، لكنها ضرورة تحتمها الظروف والتحديات التي نواجهها وهي آلية للضبط والسيطرة، وليس كما يظن البعض أنها إضعاف للسلطات المركزية. كما أن الدعوة إلى انتهاج اللامركزية لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء المركزية، فاللامركزية تستوجب منطقيا وعمليا وجود سلطة مركزية، لكن من المهم الموازنة بين القرار المركزي والقرار المحلي، بحيث تتولى الأجهزة المركزية القضايا الوطنية التي يمتد تأثيرها إلى جغرافيا الوطن، بينما يفترض أن تتولى الإدارات المحلية القرارات التي تخصها ويكون تأثيرها محصورا داخل نطاقها المحلي. الفكرة هنا أن الإدارات المحلية أكثر قربا للمواطن، وأكثر اهتماما بالموضوعات المحلية، وأكثر دراية بالوضع المحلي، وهي بذلك مؤهلة لصناعة تلك القرارات المحلية أكثر من الأجهزة المركزية التي لا تملك الاهتمام ولا الوقت ولا القدرة على المتابعة، وبالتالي لا تمثل القضايا المحلية أولوية وطنية.

إن ما تواجهه المدن من جراء كثافة الأمطار وما نتج عنها من خسائر يجعل من الضروري إعادة التفكير في نظام الإدارة الحكومية ليس بالتطوير الجزئي، إنما إصلاح إداري على المستوى الأفقي والعامودي. أفقيا في الفصل بين السطات التشريعية والتنفيذية ومنح المجالس النيابية المحلية سلطات تتساوى مع حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها وجعل البيروقراطيات العامة تأتمر بأمرها وتحاسبها على أدائها. وعموديا في تطبيق نهج اللامركزية، بحيث تكون الإدارة المحلية لديها كامل الصلاحيات في إدارة شؤونها المحلية ومحاسبة المسؤولين بناء على ذلك. ويقترح لتعجيل وتيرة الإصلاح الإداري المحلي أن يتم ربط أمراء المناطق بالملك مباشرة من خلال تكوين مجلس أعلى للإدارة المحلية يترأسه الملك وبعضوية أمراء المناطق. هكذا فقط نستطيع أن نواجه المخاطر والتحديات على المستوى المحلي والتحول من الإجراءات الورقية المطولة التي يستجدي فيها المسؤول المحلي الأجهزة المركزية المشاريع والخدمات لتصل في النهاية بطريقة مجتزئة ومتشرذمة لا ترابط فيما بينها، ليكون قدر أمراء المناطق والمسؤولين المحليين تلقي الانتقادات عاما بعد عام وأن يكونوا في عين العاصفة دون تقصير منهم! وإذا لم يتم التحرك سريعا في إصلاح الإدارة المحلية بإصدار نظام يحدد الأدوار والصلاحيات والعلاقة مع الأجهزة المركزية ستظل الإدارات المحلية مغيبة عن المشهد المحلي وستظل المجتمعات المحلية تعاني سوء أداء الأجهزة المركزية لتنقلب نعمة المطر إلى نقمة داخل المدن والمحافظات.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك