حقول النفط المنهكة في بحر الشمال تولد من جديد بقلم جاي تشازان

الاقتصاد الآن

1854 مشاهدات 0



حتى في منتصف فصل الصيف، يمكن أن تكون مدينة شيتلاند في منتهى القسوة. في تموز (يوليو) 2011، تجمع عدد من الوجهاء الزائرين للاحتفال باستثمار شركة النفط الفرنسية ''توتال'' في حقل جديد للغاز يقع في المنطقة المغمورة. يقول برينت تشيشاير، الذي يعمل لدى دونج إنيرجي، وهي شركة دنماركية تعمل شريكا مع توتال: ''كانت درجة الحرارة ست درجات، وكانت هناك أمطار أفقية، وقلتُ في نفسي: إذا كان هذا في شهر تموز (يوليو)، فالله يعلم ما سيكون عليه الحال في الشتاء''. وعلى الأرض كان هناك ما يكفي من الألم. كانت الخراف تتجمع بحثاً عن الدفء في الأراضي المنبسطة الخالية من الأشجار والأراضي التي كشطتها الرياح الخشنة فأصبحت صقيلة. لكن على شركات النفط أن تتعامل حتى مع بيئات أكثر قسوة من ذلك خارج الأرخبيل الاسكتلندي، مثل المياه العميقة والرياح التي لها قوة الأعصار والأمواج العاتية التي يبلغ ارتفاعها 15 قدماً. وعلى الرغم من هذه الأحوال القاسية، تجمع جيش من شركات الطاقة في المنطقة، جذبتهم ترسبات الزيت والغاز الهائلة فيها. ويوجد في المنطقة الواقعة غرب شيتلاند نحو 17 في المائة من بقية احتياطيات المملكة المتحدة من الهيدروكربونات، وهي كمية تعادل 8 في المائة من حاجاتها من النفط حتى عام 2016. وبالنسبة لبريطانيا، المنزعجة بصورة متزايدة من اعتمادها على الغاز المستورد، تعتبر عمليات الاستكشاف في هذه المياه مسألة استراتيجية حرجة. واصلت صناعة النفط ضخ الخام من بحر الشمال لمدة 40 عاماً تقريباً، ولكن ذهب تقريباً معظم الإنتاج السهل من الغاز والنفط. والآن تتزايد صعوبة وتكلفة استخراج ما تبقى. وبعض هذه المواد ثقيل، والخام اللزج يحتاج للتسخين والمعالجة كيماويا ليصبح في حالة سائلة، أو الزيت الذي يجب غليه ليسخن عند درجات ضغط عالية الخطورة.


تتوقع 'توتال' أن يرتفع الإنتاج في بحر الشمال من 1.5 مليون برميل من معادِل الغاز والنفط يوميا هذا العام، إلى مليوني برميل يوميا بحلول 2017.
والبديل لذلك موجود في أماكن بعيدة في شمال الأطلسي، غرب شيتلاند. هذا هو الموقع الذي تجاسرت فيه شركة توتال على البدء باستثمار 3.3 مليار دولار لتطوير اثنين من حقول الغاز الطبيعي خارج شواطىء شيتلاند، يدعى الأول ''لاجان'' والثاني ''تورمور''، حيث سيبدأ أخيراً التشغيل المنتظم في العام المقبل، بعد خمس سنوات من التحضيرات المضنية. هذه عملية صعبة من الناحية الفنية. ولأن ''توتال'' لا تستطيع تشغيل منصات فوق سطح البحر في منطقة معرضة لبعض من أسوأ أعاصير المملكة المتحدة، فإنها لجأت إلى بناء نظام إنتاج على عمق 600 متر في قاع البحر، في منطقة تبعد 14 كيلومتراً عن الشاطىء، وبعد ذلك سيتم توصيل الغاز والنفط المستخرجين بواسطة أطول شبكة في العالم من أنابيب التوصيل القائمة على قضبان التبيث والعوارض. لكن هذه تعتبر البداية فقط، إذ تعمل توتال الآن على بناء بنية تحتية للتصدير لجلب الغاز الناتج من خارج شيتلاند إلى الأراضي الرئيسة في بريطانيا، وأخذت الشركة في حساباتها أن تكون لديها قدرة كافية لاستيعاب الغاز من حقول أخرى. وبعض هذه الحقول لها أسماء إيحائية، مثل بإدرادور إيست، وتوبرموري، وجلينليفيت، والتي يبدو وقعها وكأنها أسماء لمعامل تقطير أكثر مما تشبه حقول الغاز. ويقول باتريس دي فيفييس، رئيس ''توتال'' في شمال أوروبا للتنقيب والإنتاج: ''سيستعمل خط أنابيبنا لتحرير طاقة كل المنطقة الواقعة غرب شيتلاند''. ومشروع ''توتال'' جزء من رواية أوسع عن ميلاد جديد. بحر الشمال، الذي استهان به البعض في قطاع النفط على أنه قوة مستهلكة منهكة، يشهد انتعاشاً وبعثاً مثيراً للدهشة. وقد جذبت جولة جديدة من إصدار تراخيص الاستكشاف في العام الماضي 224 طلب استكشاف وتنقيب، وهو أكبر عدد من المتقدمين منذ أن بدأت مثل هذه الجولات في عام 1964. وتقول ''يو كيه أويل آند غاز''، وهي منظمة تمثل الصناعة، إن الاستثمار في حقول النفط والغاز في المنطقة المغمورة التابعة لبريطانيا سيصل إلى 13 مليار جنيه استرليني هذه السنة، وهو رقم قياسي في هذه الصناعة. وتضيف أن الإنفاق على هذا النطاق يجب أن يساعد في الإبطاء من تراجع الإنتاج من حوض يعتبر بكل المقاييس متقدماً جداً في العمر. وتتوقع المجموعة أن يرتفع الإنتاج من 1.5 مليون برميل من معادِل الغاز والنفط يوميا هذا العام، ليصل إلى مليوني برميل من معادِل الغاز والنفط يوميا بحلول عام 2017. ومع ذلك، يعتبر هذا أقل من نصف ذروة الإنتاج في عام 1999 البالغة 4.5 مليون برميل يوميا. لكن جزءاً من جاذبية بحر الشمال تعود إلى ما يبدو، على الدوام، أنه مزيد من النفط المنتظر اكتشافه. ويقول بريان نوتيج، المدير العام لمؤسسة هانون ويستوود لاستشارات الغاز: ''إنه أمر فريد من ناحية عالمية أن نجد أنه يحتوي على عدة آفاق جيولوجية. ذلك شبيه بطبقات الكعك الجميلة''. ويعني ذلك فتح فرص جديدة دائماً. وهو يعطي مثالاً على ذلك بحقل يوهان سفيردروب الواقع قبالة سواحل النرويج، الذي يحتوي على ملياري برميل، والذي اعتبر أكبر كشف عالمي عن النفط في عام 2011. وبحسب ليندسي ويكسيليستاين، كبيرة محللي منطقة بريطانيا في شركة وود ماكينزي للاستشارات، من المفروض أن يضخ الحوض الخام ''لعدة عقود مقبلة. هناك أكثر من ربع الطاقة الكامنة من حصة بريطانيا في بحر الشمال لم ينتج بعد، وهذا يعني أنه ما زال يوجد الكثير أمام الشركات كي تسعى وراءه''. وتحدث هذه اليقظة على الرغم من نظام الضرائب الذي غالباً ما أغضب الشركات الكبرى. ومن الأمثلة على ذلك، الاستياء الذي سببه جورج أوزبورن، وزير المالية البريطاني، في 2011 عندما بدأ بشن غارة من الضرائب لتحصيل ملياري جنيه استرليني من حقول نفط بحر الشمال، وهو قرار اعتبره كثير من شركات الطاقة أحد أسباب انخفاض أعمال التنقيب في بحر الشمال إلى النصف عام 2011 لتهبط إلى 15 بئراً فقط. وهو أقل مستوى تصله منذ منتصف الستينيات. لكن وزارة المالية عملت فيما بعد على التخفيف من صدمة تلك الضرائب، بإدخال حوافز ضريبية جديدة مصممة لتحسين اقتصاديات الحقول الهامشية من الناحية التجارية. ووفرت كذلك قدراً أكبر من اليقين بخصوص الإعفاءات الضريبية المتعلقة بتكاليف التفكيك، وهو من الأسباب الرئيسة لقلق الصناعة. تقول ويكسيليستاين: ''كل ذلك ساعد في تحسين ثقة المستثمرين''. لكن حتى أكثر المدافعين حماسة عن بحر الشمال يعترفون بأن الحظ لن يدوم إلى الأبد. فالكثير من الإنفاق الذي سجل أرقاماً قياسية، صُرِف على إصلاح الحقول القديمة ونشر تكنولوجيا حديثة لإطالة عمر المكامن الموجودة حالياً. ويقول مالكولم ويب، رئيس منظمة ''يو كيه أويل آند غاز'': ''علينا أن نعدو بسرعة أكبر فقط كي نحافظ على مكاننا''. وفي حزيران (يونيو) 1975 بدأ الإنتاج من حقل أرجيل في بحر الشمال، وهو أول حقل نفط جعل من الجرف القاري لبريطانيا مقاطعة رئيسة جديدة في إنتاج النفط. وبعد ذلك بخمسة أشهر قامت الملكة بالضغط على زر مطلي بالذهب لتدشين حركة الخام من حقل بريتش بتروليوم العملاق، المسمى فورتيز. وبحلول عام 1981 أصبحت المملكة المتحدة مُصدراً خالصاً للنفط. وفي الوقت الذي تم فيه اكتشاف حقول كبيرة أخرى، عملت إيرادات النفط على تمويل طفرة الثمانينيات. لكن أيام مجد بحر الشمال أصبحت الآن وراءه بمسافة بعيدة. فقد انخفض ما ساهمت به صناعة الطاقة في الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا من 10.2 في المائة عام 1982 إلى 4.4 في المائة فقط عام 2011. وفي الفترة نفسها تراجعت بريطانيا من المرتبة السادسة بين أكبر منتجي النفط في العالم إلى المرتبة 19. وفي العقد الماضي قامت شركات كبرى، مثل إكسون موبايل ورويال داتش شل، بتخفيض نشاطها في المنطقة وركزت بدلاً من ذلك على مناطق، مثل قطر وأستراليا وخليج المكسيك. لكن، وعلى الرغم من تناقص احتياطياته، استمر بحر الشمال في التمسك بقبضته قوية. وعندما انسحبت الشركات الكبرى، مُلئ الفراغ بالشركات المستقلة الأصغر المتخصصة باعتصار المزيد من النفط من الحقول القديمة. كما قامت شركة أباشي بالاستحواذ على حقل ''فورتيز'' من شركة برتيش بتروليوم عام 2003. وهناك فئة أخرى جديدة من الشركات التي تسيطر عليها حكومات من آسيا والشرق الأوسط تعمل في بحر الشمال. ومن الشركات الجديدة الأكثر نشاطاً الداخلة في هذا المجال ''طاقة''، وهي شركة طاقة تابعة لأبو ظبي، التي اقتنصت العام الماضي مليار دولار من أصول النفط والغاز التابعة لشركة بريتش بتروليوم في بحر الشمال. والشركات الصينة كانت كذلك نشطة، ففي العام الماضي اشترت شركة سينوبيك حقول بريطانيا من شركة تاليسمان إنيرجي، المدرجة في البورصة الكندية، بمبلغ 1.5 مليار دولار، بينما أعطى استحواذ Cnooc على شركة نيكسين، وهي شركة كندية أخرى، الشركة الصينية أسهماً في حقول نفط عملاقة، مثل حقل بوزارد. وفي هذه الأثناء، بالكاد يمر شهر دون ورود أخبار عن إعطاء ضوء أخضر لمشاريع نفط رئيسة جديدة في بحر الشمال. والمفارقة أن الكثير من حقول النفط التي تفتتح الآن تم اكتشافها منذ فترة طويلة، لكن ما حدث في وقت اكتشافها أن الشركات كانت تفتقر إلى الوسائل اللازمة لاستغلالها. وتقول ويكسلستاين: ''الآن يعمل الفهم المحسن للسطوح السفلية، والتكنولوجيا المتقدمة، وأسعار النفط الأعلى على المساعدة على تقدم هذه المشاريع''. وقد أعلنت شركة شتات أويل في الفترة الأخيرة عن استثمار بمبلغ سبعة مليارات دولار في حقل مارينر، وهو حقل للنفط الثقيل اكتشف في عام 1982. ومع ذلك، التوجه نحو حقول النفط المنهكة من الناحية الفنية يحمل في طياته عدداً من المخاطر. مثلا، تشغل توتال حقل إلجين - فرانكلين، وهو من حقول بحر الشمال العملاقة حيث تصل درجة حرارة النفط إلى 200 درجة مئوية، والضغط يصل إلى 1100 بار، أي ما يعادل 500 مرة ضِعف الضغط الذي نجده في إطار السيارة. وفي السنة الماضية توقف الإنتاج بعد إغلاق حقل إلجين، وتم إجلاء 238 عاملاً من الموقع بعد اكتشاف تسرب للغاز. ووفقا لنوتيج: ''يبين حقل إلجين التحديات التي يواجهها العاملون في بيئة من الضغط العالي والحرارة العالية''. اكتشف حقل لاجان، التابع لشركة توتال، في 1986. لكنه كان ''عالقا''، بمعنى أنه أصغر مما يجب وأبعد مما يجب، وبالتالي لم يكن هناك ما يبرر التطوير الكامل للحقل. وتغير هذا الوضع حين اكتشف حقل تورمور القريب منه في 2007. ووافقت توتال على المشروع، الذي انتعش بفضل إعفاء ضريبي مُنِح للشركة في الأيام الأخيرة من حكومة حزب العمال. لكن خطط الشركة وقعت في حالة من الفوضى بفعل ميزانية آذار (مارس) 2011 في بريطانيا، التي ضربت شركات النفط بزيادة كبيرة من خلال رسوم تكميلية على ضرائب الشركات. وعملت هذه الإجراءات على رفع المعدل الكلي للضرائب على تطوير نفط وغاز بحر الشمال إلى 62 في المائة، وإلى نسبة 81 في المائة على بعض الحقول القديمة. واشتعلت ''توتال'' غضباً. ويقول فيفييس: ''كانت تلك هي المرة الثالثة خلال عشر سنوات التي تتغير فيها السياسة الضريبية. كانت مسألة تتعلق بإمكانية الوثوق في النظام، وباستقرار النظام الضريبي''. لكن كان الأوان قد فات على إيقاف العمل في مشروع شيتلاند، ولذلك استمرت ''توتال'' في العمل. وكانت التحديات منذ البداية هائلة. وكأنه لا يكفي أن الجوانب اللوجستية لعمليات قاع البحر على مسافة بعيدة داخل المنطقة المغمورة كانت تسبب التهيب وتثبط العزيمة، فإن المعمل نفسه كان يضع الشركة أمام صعوبات بيئية. فقد كانت المنطقة مغطاة بخبث المستنقعات منذ فترات طويلة، لذلك قررت ''توتال'' إزالة وتخزين كل هذا الخبث في مستودعات، ليتم بعد ذلك إرجاعه إلى مكانه بعد تفكيك المعمل. كما عملت على إنشاء ممرات عبر الموقع ومناطق لحماية مواقع تعشيش حيوان الأطر وطير التمساح الذهبي وطيور رسول الغيث ( الزقزاق) في شيتلاند. وكان أغلب المعمل مجمعاً على موقع مكون من وحدات مسبقة الصنع، بطريقة يصفها مدير المشروع، روبرت فولدز، بأنها تشبه ''قطع الليغو الكبيرة التي يلعب بها الأولاد''. وتمت صناعة مرافق معالجة الغاز الهائلة في الكويت التي تبعد أربعة آلاف ميل عن المكان، وصنعت الضاغطات في إيطاليا. وأثناء ذلك، كان العمل يتقدم تحت الماء. وكان أساس نظام الإنتاج الواقع تحت الماء مكوناً من شبكتين من الأنابيب المتشعبة، تزن الواحدة منهما 900 طن، وفي كل واحدة فتحات لحفر ست آبار. وتم تنزيل هاتين الشبكتين إلى قاع البحر في صيف عام 2012 بواسطة السفينة ''ثيالف''، أكبر السفن المخصصة للبناء في أعماق البحار في العالم، حيث تبلغ قدرة رافعاتها الاثنتين 14 ألف طن. وعملت سفن أخرى على مد أميال من الأنابيب. بينما تم تركيب كيبل يعمل عمل الحبل السري لتوفير الطاقة الكهربائية والهيدروليكية إلى آبار لاغان وتورمور والسيطرة عليها من بعد من أماكن على الشاطىء تبعد مسافة 144 كيلومتراً عن المعمل. ويعتبر حقلا لاجان وتارمور من العناصر الحاسمة في استراتجيات النمو الطموحة للشركة. وبحلول عام 2015 ستصبح ''توتال'' أكبر منتج للغاز والنفط من بحر الشمال التابع لبريطانيا، حيث ستضخ 200 ألف برميل يومياً مقارنة بضخ 106 آلاف برميل يومياً في 2012 من معادِل النفط والغاز. ولم يصدق أحد أن تطويع موارد بحر الشمال سيكون عملية سهلة، لكن رئيس التنقيب والإنتاج في شركة توتال، إيف لوي داريكارير، لديه رؤية تاريخية أخرى حول الاستراتجية العظمى للشركة: ''كما قال نابليون: الحرب هي فن بسيط، كل شيء يدور حول التنفيذ''.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك