قصة كي- داو .. دروس وعبر

الاقتصاد الآن

الجمعية الاقتصادية: سقطة في صناعة القرار بسبب التدخلات السياسية، والتوظيف العشوائي

1041 مشاهدات 0

طارق محمد مساعد الصالح

أصدرت الجمعية الاقتصادية الكويتية بيانا حول حكم تعويض شركة الداو ، جاء كالتالي:

أصدرت غرفة التجارة الدولية في الآونة الأخيرة حكماً حصلت بموجبه شركة داو للكيماويات تعويضًا قدره 2.2 مليار دولار بسبب إلغاء صفقة كي-داو، وتم دفع التعويض من قبل الكويت في مطلع شهر مايو 2013. وقد أثارت هذه الغرامة المالية غير المسبوقة جدلا إعلاميا حول متخذي القرار في السلطة التشريعية والحكومة ودورهم في إجهاض خطة كي-داو، فيما يلوم آخرون القطاع النفطي في الكويت لإبرامهم مثل هذه الصفقات في المقام الأول. وفي نظرنا، من المجدي في هذه الحالة الكشف عن الدروس طويلة المدى للحوكمة، والسعي لاسترجاع مصداقية الكويت كوجهة رئيسية للتجارة، خصوصاً في ظل التصنيف المنخفض للكويت في مجال الحوكمة من قبل المؤسسات الدولية.
وتقوم المؤسسات الحكومية وخصوصا المرتبطة بالقطاع النفطي بدور مهم في تخصيص الموارد والانتفاع منها، نظراً إلى كبر حجم مساهمة هذه المؤسسات في إيرادات الدولة (اكثر من 90%)، إلا أن المؤسسات الحكومية ركزت خلال الفترة السابقة على الإجراءات الروتينية، ولم تول التركيز الكافي للشفافية، وقياس الأداء، والمساءلة، ولهذا السبب جاء تصنيف الكويت دون المرجو حسب المؤشرات الدولية لجودة الإدارة والمساءلة، حيث 'تنبع صعوبات حوكمة الشركات من ارتباط المسؤوليات في الشركات المملوكة للدولة بسلسلة معقدة من الوسطاء - مثل الإدارة، ومجلس الإدارة، والجهات المالكة، والوزارات، والحكومة - بدون أي مسؤولين رئيسين يمكن تعريفهم بشكل واضح وسهل أو حتى بشكل غير مباشر. ويتمثل التحدي بعملية هيكلة هذه الشبكة المعقدة من المسؤوليات بشكل يضمن كفاءة صنع القرار وجودة الحوكمة' .
وتجسد تطورات قضية كي-داو مثالا حياً للحالات التي يكون فيها الإطار العام للسياسات مفتقداً لإجراءات الحوكمة السليمة. وفي هذا السياق، نسعى من خلال هذه الوثيقة إلى استخلاص دروس حوكمة محددة تمهد لأرضية صلبة للقطاع النفطي من أجل تقديم أداء ذي فاعلية أكبر، واسترداد المصداقية الدولية التي خسرتها الكويت بسبب قضية كي-داو.

الدرس الأول: تحصين القرارات الاقتصادية من المناورات السياسة
بعد أن اتخذ مسؤولي القطاع النفطي قراراتهم الاقتصادية حول صفقة كي-داو، قام البرلمان بتناول موضوع الصفقة للمزيد من المراجعة. وللوقوف على جدوى هذا الإجراء، من المجدي النظر إلى النموذج النرويجي في هذا المجال، حيث يشرف البرلمان النرويجي على كل أوجه القطاع النفطي، إلا أن البرلمانيون لا يراجعون الرخص فرادى، ولا يتدخلون في التفاصيل الفنية للقرارات الاقتصادية. كما تتبع وزارة النفط والطاقة النرويجية قواعد صارمة، ولا يمكن أن تحيد عن سياسات وقواعد التراخيص والتي تم وضعها من قبل المشرعين في البرلمان، وعلى المسؤولين الحكوميين الإعلان عن أية تعارض في المصالح.

ولعل الطريقة المثلى لمعالجة هذا التداخل في صلاحيات مؤسسات الدولة في الكويت هو منح المؤسسات الحكومية الاستقلالية، وتحصين قراراتها الاقتصادية ذات الطابع الفني من المناوشات السياسية، حيث أن السبب الرئيسي للتراجع عن صفقة كي-داو - بغض النظر عن الأساس المنطقي وراءه - هو تدخل السلطة التشريعية بمهام السلطة التنفيذية. وبشكل عام، لا يمكن للمؤسسات الحكومية أن تعمل بطريقة سليمة إذا كان كل قرار تصدره الجهة التنفيذية سيتم تمحيصه والموافقة عليه من قبل البرلمان واللجان المختلفة والوزارات المعنية. كما يعتبر منصب وزير النفط منصباً سياسياً، ومن يشغله يكون مسؤولا عن القطاع النفطي وأداءه من خلال رسم وتنفيذ

السياسات العامة المتعلقة بالقطاع، ولا بد من وجود قواعد وتعليمات واضحة - كما هو الحال في المثال النرويجي - بشأن النشاطات الاقتصادية للمؤسسات الحكومية، والتي على أساسها يقوم وزير النفط بمتابعة الأداء، بدلاً من إهدار وقته في الحصول على الموافقة لكل نشاط اقتصادي للمؤسسات الحكومية. كما يتحتم على المؤسسات الحكومية أن تدعم قراراتها بالدراسات الوافية وأن تلتزم بالإجراءات والقواعد المنصوص عليها قانوناً والتي حظيت بموافقة البرلمان، وأن تقوم الحكومة بالدفاع عن هذه القرارات في حال وجه البرلمان النقد لهذه القرارات أو أخضعها للمساءلة. وبهذا الشكل، تكون محاسبة البرلمان للحكومة ومؤسساتها وفق القواعد العامة المتفق عليها والتي تم تشريعها كقوانين، وليس وفق التفاصيل الفنية التي تعني بها المؤسسات الحكومية ذات الطابع الاقتصادي.

وبناءً على أفضل الممارسات الدولية، يقوم المشرعون بتنظيم القطاع النفطي والإشراف عليه، ولكنهم لا يناقشوا التفاصيل الفنية للصفقات التجارية، وهذا ما يجب تطبيقه في الكويت لينجح المشرّع في محاربة الفساد بصورة أفضل عبر تحسين الإطار القانوني وتقديم عقوبات أكثر صرامة، عوضا عن البحث اجتهادا عن عدم سلامة كل صفقة على حدى، وبذلك تُترك مهام تمحيص أعمال الوزارات والمؤسسات الحكومية للمدققين الداخليين وديوان المحاسبة. ولقد وافق البرلمان في وقت سابق من هذا العام على قانون جديد متعلق بتضارب المصالح والافصاح، ويعتبر هذا التشريع خطوة في الاتجاه الصحيح.

الدرس الثاني: ربط المناصب مع الكفاءة
وتفتح قضية كي-داو المجال للعديد من التساؤلات حول إحكام عملية صنع القرارات في المؤسسات الحكومية، والتي بدورها مرتبطة بجودة الموارد البشرية فيها، فالتعيين للمناصب العليا في هذه المؤسسات غالباً ما يكون مرتبطا بعدة عوامل ومتغيرات ليس لها علاقة بالكفاءة. كما أن عملية الترقيات استدعت تشكيل عدة لجان تحقيق، وهو ما ينم عن افتقاد الاجراءات الواضحة للترقية وشغر المناصب والوظائف بناء على الكفاءة، ومن شأن إصلاح عملية الاختيار للمناصب والوظائف الشاغرة أن تمنع المرشحين للتعيين في تلك الوظائف من اللجوء إلى طرق غير رسمية لإثبات أحقيتهم في التوظيف. كما يمكن أن يتم التعيين في المناصب القيادية في المؤسسات الحكومية عن طريق مقيّمين دوليين، وشركات توظيف عالمية لتقليل إمكانية الاختيار على أسس سياسية، ويجب تطبيق هذا النظام على جميع الشركات الحكومية الكويتية، والتي تسيطر على حصة كبيرة من الإيرادات الحكومية. وبالإضافة لذلك، لا بد أن يتم التوظيف في القطاع النفطي بناءً على الاحتياجات، بدلا من استخدام التوظيف كوسيلة لدعم البطالة المقنعة.
وباختصار، لا بد من الاستثمار في الموظفين وجذب المواهب والكفاءات، وحماية المؤسسات الحكومية من التوظيف العشوائي. ولتحقيق هذا الهدف، نقترح أن تلتزم المؤسسات الحكومية بقواعد توظيف واضحة وشفافة تشمل:
• صياغة توصيف وظيفي واضح، ومرتبط بشكل وثيق مع الأهداف المؤسسية.
• تحديد الشروط والمؤهلات المطلوبة للمنصب.
• تشكيل لجنة محايدة لتقييم المتقدمين للتوظيف بناء على الشروط والمؤهلات المطلوبة.
• إعداد قائمة بالمرشحين المحتملين لتولي مهام الوظيفة.
• التوصل لقرار توظيف مبني على أسس مهنية ومدعوم بالإجراءات المذكورة أعلاه.
• الإعلان بشكل شفاف عن الشواغر وعن نتائج عمل اللجنة.

الدرس الثالث: ترسيخ ثقافة المساءلة العادلة للموظف الحكومي
تتركز معظم المناقشات حول قضية كي-داو على السياسيين، بينما تهمل أعمال الموظفين التي تعتبر جزء رئيسي من المشكلة. وكلما ظهرت قضية مثيرة للجدل في الكويت حول وزارة ما أو أي من المؤسسات الحكومية، غالبا ما يتم استجواب الوزير المسئول في البرلمان، ومن ثم يستقيل الوزير وتنتهي المسألة عند هذا الحد. وفي الحالات القصوى يتم إجبار رئيس المؤسسة أو أحد كبار المسؤولين على التقاعد المبكر، مما يؤدي إلى توليد حالة من اللامبالاة بسبب ضعف ثقافة المساءلة عند الموظفين نظراً لعدم وجود عواقب. ولذلك، يجب العمل على تحسين الإطار القانوني والنهج الإداري، والتأكد من إلمام كل مسؤول تنفيذي بمسئولياته ومهامه.
ويمكن تحقيق ذلك فقط إذا تم تكريس الحوكمة عن طريق سياسات وإجراءات جيدة يتم تطبيقها بشكل فاعل من قبل الموارد البشرية المناسبة، والقادرة على ترجمة هذه السياسات إلى أهداف واقعية يمكن قياسها عن طريق مؤشرات أداء رئيسية. ومن هذا المنطلق، يجب تحديد مؤشرات رئيسية لقياس أداء المؤسسات الحكومية وموظفيها بشكل واضح. كما يجب أن تصاغ مؤشرات قياس الأداء هذه لتكون موضوعية وقابلة للقياس و التوثيق، وبذلك تصبح هذه المؤشرات أدوات فعالة لتكريس الشفافية والمحاسبة العادلة، وينصب تركيز موظفي المؤسسات الحكومية على الأداء وتحقيق النتائج.
الدرس الرابع: تأسيس قنوات اتصال هادفة
ولو نظرنا عن كثب إلى قضية كي-داو، سنرى أن مكمن الخلل هو عدم وجود قنوات اتصال منسجمة، حيث تصدى كل من مجلس إدارة شركة الصناعات البتروكيماوية، ومجلس إدارة مؤسسة البترول الكويتية، ووزارة النفط، والمجلس الأعلى للبترول لهذه القضية. وبعد كل تلك المناقشات، أعلن بعض الأعضاء في هذه اللجان عدم معرفتهم بوجود بند عقوبات لإلغاء الصفقة، مما أجج من عملية تقاذف اللوم كنتيجة لعدم فاعلية ووضوح قنوات الاتصال بين متخذي القرار. وبعكس هذا السيناريو، توفر قنوات الاتصال البسيطة والفعالة الوضوح والشفافية وسهولة المساءلة عند الحاجة، ولذلك يجب تقليل عدد اللجان أو على الأقل التأكد من عدم وجود أية تعارض في الصلاحيات بينها، بحيث لا يتم مراجعة أو الموافقة على المشروع من قبل أكثر من لجنة عليا واحدة تتحمل مسؤولية المشروع وتُحاسب على نتائجه.

الآن : المحرر الاقتصادي

تعليقات

اكتب تعليقك