ديموقراطية الربيع العربي كما يراها خليل حيدر ولدت مُشوهة
زاوية الكتابكتب ديسمبر 11, 2013, 12:05 ص 705 مشاهدات 0
الوطن
أفكار.. وأضواء / محاولات.. لإنقاذ 'ربيع العرب'
خليل علي حيدر
دول الربيع العربي ظلت لسنوات تمارس القمع والاستبداد وعندما حضرت الثورات ولدت ديموقراطية مشوهة
الديموقراطية في الواقع نوع من المصارحة الجماعية وكشف الغطاء عما يريده الناس
ثورات «الربيع العربي»، كما عبر مستشار الرئيس الجزائري السابق محيي الدين عميمور عن خيبة امله فيها، تشبه المرأة التي ظلت لاكثر من اربعين عاما تتعاطى حبوب منع الحمل، «وبعد ان اوقفت الحبوب لتحمل بعدها فان من الطبيعي ان تنجب مولودا مشوها، فدول الربيع العربي ظلت ولسنوات تمارس القمع والاستبداد، وعندما حضرت الثورات ولدت ديموقراطية مشوهة في بعضها، والغريب ان نطالب بديموقراطية جاهزة ونحن أصلا لم نؤسس لأرضية ثابتة من الاسفل». (الجريدة، 2013/11/13).
وربما كان الوضع بالنسبة لبعض المتشائمين أفجع، فهذه الطفلة الوليدة الخديجة، ورغم تشوهاتها المفزعة، لاتزال أمها تكاد تشرف على الهلاك!.
كانت الديموقراطية الحد الادنى منها على الاقل، من بين اهداف الثائرين، وفي دراسة للتداعيات الانسانية حول مفهوم الديموقراطية نشرت نتائجها في سنة 1995، يقول د.مصطفى سويف وتعاون في اجرائها ثلاثة من علماء النفس الاسكتلنديين والسلوفاك، كان الهدف منها الكشف عما يمكن ان يصدر من تداعيات للمعاني بصورة تلقائية لدى الفرد المواطن العادي، عندما يسمع بها، وقد تبين ان اكثر التداعيات شيوعا بين افراد التجربة ثلاثة معان هي: الحرية، حقوق الفرد، والعدل. كما وردت تداعيات اخرى اكثرها انتشارا اشارات خمس هي: المعارضة، والرأي العام، والبرلمان، والقانون، والدستور. (الهلال، يونيو 2005).
لا شيء من هذا، في اعتقاد المفكر الكويتي المعروف د.محمد غانم الرميحي، قد تحقق الديموقراطية، يوضح في مقال له، كالسباحة، يجب تعلمها بالممارسة، «ولكن ليس في حوض جاف»، ويضيف: «مفردة الديموقراطية ربما من اكثر المفردات السياسية التي يتداولها العرب، ومن بعدها مفردة الحرية، وكلتاهما مفرغة من محتواها ومحرفة عن معناها. يهمش «الديموقراطيون» العرب مخالفيهم في الوطن، سواء كانوا في العرب او الطائفة او الديانة او اللهجة او الاجتهاد السياسي، الى حد الابعاد. حين ننظر الى الخارطة العربية من الكويت الى نواكشوط نجد امثلة مكررة من التهميش للاخر المختلف». لقد تعجل العرب والعالم في تفسير الاحداث واعلان النتائج! ففي الاربعين عاما الماضية، يقول د.الرميحي استاذ علم الاجتماع المعروف ورئيس التحرير السابق لمجلة العربي في الكويت «اعتقد العالم لاكثر من مرة – ومنهم العرب – ان انتصار الديموقراطية بمعناها الغربي هو انتصار نهائي. حدث ذلك بعد سقوط وتبعثر الدولة السوفييتية في نهاية القرن الماضي، كما حدث في بداية «الربيع العربي»، ومن المضحك المبكي ان ظهور النتائج السياسية هذا العصر السريع لا تحتاج الى عقود من السنين، بل الى اشهر قليلة، وها هي النتائج في كل من بغداد ومصر وتونس مرورا بالكويت، جلها تقول ان القضية ليست في التصور او الفكرة، بل في التطبيق على الارض». ان العرب يفرغون الديموقراطية من مضامينها، يشتكي د.الرميحي، وتكاد امالنا الخائبة تشبه تلك التي وضعها الاوروبيون في المسيحية عندما زحفت الى اوروبا وعالم البحر المتوسط في القرن الرابع الميلادي، ووقعت ضحية للواقع الامبراطوري الروماني، فالمسيحية عندما دخلت روما كما تنص المقولة الشهيرة لم تتمسح روما وانما تروّمت المسيحية و«هكذا فان الديموقراطية اليوم تتلون بألوان البيئة، وتضفي عليها شعارات خارجة عن فلسفتها، وممارسات متناقضة مع اهدافها، وهي بإيجاز «سُكّر مرُّ الطعم»، ان اردنا التشبيه. هذا هو الذي يشيع الاحباط اليوم في الكثير من القطاعات وخصوصا قطاع المستنيرين العرب». (الشرق الاوسط 2012/3/20).
غير ان الديموقراطية في الواقع نوع من المصارحة الجماعية وكشف الغطاء عما يريده الناس في لحظة معينة من التاريخ، وهي احيانا كالياناصيب! وعندما وقع غير المرغوب، وفاز الاخوان المسلمون في مصر، بدا الاستاذ عبدالرحمن الراشد متماسكا متفائلا واعلن بصراحة «انها الديموقراطية». وقال: «اعرف ان الجدل حول فوز الاخوان المسلمين في مصر اخذ حيزا كبيرا من نقاشاتنا، وهذا طبيعي. مثلا، كشف فوزهم هشاشة الفهم الثقافي في المحيط العربي للديموقراطية.. الديموقراطية ليست نظاما مضمون النتائج. انتم تريدون ثم لا تستطيعون هضم نتائجها «السيئة». اذن ما هي الديموقراطية؟ أليست خيار الشعب؟ قد يكون خيارهم شخصا جاهلا او متعصبا او شعبويا او مجرما مثل هتلر، هذه حقيقة الديموقراطية، فمعظم ممثلي البرلمانات الحقيقية ليسوا من اصحاب الكفاءات العلمية العالية، او الخبرات المميزة، معظمهم اناس يجيدون التعاطي مع الشارع». (الشرق الاوسط 2012/7/7).
فاجأت الثورات او التغييرات العالم العربي، ولهذا تساءل الاعلامي المعروف عماد الدين اديب بارتياب: «هل تصلح الثورة لشعوبنا؟ وقال: «اسوأ ما في الثورات ان تنتكس. اسوأ ما في الحلم ان يتحول الى كابوس. كان هناك حلم عظيم بحريات اكثر، وعدالة اشمل، وديموقراطية حقيقية، الخوف ان يتحول الاحباط الى الاستسلام الكامل والى القبول الكامل بالاوضاع الحالية، هناك حالة من الاحباط الممزوج بالغضب المكتوم من مسألة انحراف الثورات العربية، البعض، وهم قلة، مازالوا يؤمنون بان الثورة مستمرة وان اليأس خيانة، الاخطر من ان الاحلام لم تتحقق، هو ان عكسها تماما هو الذي يطبق على ارض الواقع». (الشرق الاوسط 2013/5/17).
في الشهر التالي، اجاب الصحافي اللبناني عن السوال الذي اثاره الاعلامي المصري، وقال «عزت صافي» في عنوان صريح بجريدة الحياة، «غالبية العرب غير مؤهلة للديموقراطية» (2013/6/6).
الصحافي اللبناني، راح في مقاله.. يتحدث عن الكوابيس:
«المواطن العربي أينما كان في بلاده او في اصقاع الأرض يحاول ان يحجب عن عينيه شاشة التلفزيون، وأن يهرب من نشرات الأخبار في الاذاعات وهو يتردد قبل ان يفتح صحيفة الصباح خوفا من مناظر الأشلاء والدمار والنحيب تتبعها مشاهد قوافل النزوح الى المجهول.
لا يستطيع هذا المواطن ان يراجع تاريخه، كأن ليس لهذا التاريخ بداية. فمن أين يبدأ العربي تاريخه اذا بحث عن زمن للحرية والاستقرار والكرامة مع العدالة؟.. بهذا المعنى يجد العربي نفسه قابعاً تحت الاستعمار، انه الاستعمار الوطني، انه الاستبداد الأفظع من الاستعمار.
هل صار الاستعمار الاجنبي مقبولا بالمقارنة مع الاستعمار الوطني؟.. تساؤل من هذا يستدعي اللعنة لكن على من؟.
قد يخطر لصحافي، او باحث ان يجري تحقيقا او استطلاع رأي فيروح يسأل الناس عشوائياً: هل الأوضاع في بلاد الثورات العربية أفضل مما كانت قبل الثورات أم أسوأ؟.
لا يقصد الصحافي، او الباحث، الوصول الى نتيجة تعلن فشل الثورات أو تعميم الاحباط من النتائج حتى الآن. فتلك القوافل من الشهداء الذين لا ينقطع سيلهم، وكل ذلك الدمار والحزن والقهر والعذاب لابد ان ينتهي بسقوط الديكتاتور الذي لايزال يعاند ويكابر.
يقصد الصحافي ان يسأل ويسمع ليعرف: هل قامت الثورات في غير وقتها، ام انها أخطأت في حساباتها ام انها خدعت الشعوب فقادتها على عماها حتى أمسكت بمصيرها؟».
مشاكل العرب مع الحداثة السياسية في اربعة مجالات رئيسية على الاقل: الديموقراطية، الليبرالية، العلمانية، التنوير، وكلها تتعرض منذ فترة لهجوم الاعداء غالبا، وللنيران الصديقة احيانا كثيرة!.
«لاحظنا في هذه الفترة»، يقول د.شاكر النابلسي، و«قبلها وسيظل الامر كذلك وربما لمدة طويلة، ان هناك جزعا وخوفا من الليبرالية، وان هذه الليبرالية - كما يقول بعض الاصوليين والسلفيين - شر مستطير، وكارثة عظيمة، وبعض الاصوليين الدينيين لهم العذر في رفضهم الليبرالية، والخوف منها، فهم خلطوا ما بين الليبرالية الاوروبية في واقعها الحالي المعاش والليبرالية العربية، واعتبروا ان الليبرالية واحدة في كل زمان ومكان، وهو منطق ينافي الحقيقة، ان رفض الجديد طبيعة من طبائعنا الكثيرة، ان الليبرالية العربية ليست الليبرالية الغربية، وليست هي الليبرالية كما يفهمها الغرب، وكما صاغها لنفسه، فهناك المسيحية وهنا الاسلام، وهناك الثورة الصناعية وهنا المجتمع الزراعي الاستهلاكي المحموم، وهناك ضبط المواليد وعدد السكان، وهنا القنابل السكانية المتفجرة وسكان بلا حدود. ما ينقص الليبرالية العربية الحقة روح التسامح، الذي خاض الغرب معارك مريرة من اجل تحقيقها، فالعلاقات العربية لا تقوم على التفاهم والاقناع، وانما تقوم على القوة والاخضاع». (الجريدة، 2013/9/25).
ولكن هل «تعريب» الليبرالية يردم الفجوة بينها وبين اختها الغربية؟ واذا كنا نتقبل مبدأ «تفصيل الليبرالية»، لتناسب الخصائص والخصوصيات العربية والاسلامية، فلماذا نستهجن تفصيل الحريات الديموقراطية وفق نفس القواعد؟
ان الليبرالية تستوعب وتتقبل التيار الديني في كل مكان: الولايات المتحدة، اوروبا، كوريا الجنوبية، واليابان، وحتى في اسرائيل مهما كان الجدل في تصنيف نظامها السياسي، ولو ترك الامر للتيار الديني غير الحزبي فلربما تطورت رؤيته نحو افق الليبرالية والتعددية السياسية والحرية الدينية والتسامح الشامل وفق مبدأ «لكم دينكم ولي دين» ولكن وطننا واحد، ولكن هيهات ان تتقبل احزاب الاسلام السياسي تعددية كهذه.
ومع هذا فان هذه في الحقيقة كما يعتقد د.النابلسي، احد ائمة الليبرالية العربية المعاصرة، «فرصة الليبراليين العرب الذهبية»، ولكن كيف يمكن اقناع الرأي العام بقبولها؟ يقول شارحا: «لقد اصبح الرأي العام العربي والاسلامي مستعداً لسماع الليبراليين العرب الآن، كما لم يكن في أي وقت مضى، بعد ان جرب حكم من ركبوا موجة الاسلام السياسي، فعلى الليبرالية العربية ان تغير فورا من طروحاتها وتتبنى الخطوات التالية اذا ارادت ان تنفذ فعلا في العالم العربي وتفوز بما تحلم ان تحققه».
ويضيف د.النابلسي «ان الاسلام النقي والقويم قد اختطف من الاصوليين والسلفيين، وعلى الليبرالية العربية ان تعيد هذا الاسلام المختطف الى المسلمين، نقيا طاهرا وقويما»، ويدعو د.النابلسي الليبراليين الى تبسيط افكارهم والتحدث بمفاهيم وافكار واضحة سهلة الاستيعاب، والعمل على اصلاح المجتمع الاسلامي من الداخل وعدم الاستشهاد بالمفكرين الاوروبيين، بل التسلح بأقوال أبي حامد الغزالي وابن رشد ومحمد عبده، وافساح المجال لمفكرين مثل طه حسين ومحمد عابد الجابري والصادق النهيوم ورجاء بن سلامة وفاطمة المرنيسي وعزيز العظمة ومحمد اركون وهاشم صالح ونصر حامد أبوزيد وابراهيم البليهي وغيرهم، لمخاطبة الجماهير. (الجريدة 2013/8/14).
ان نشر ثقافة الاعتدال والتسامح وقبول الآخر في مقدمة واجبات التيار الليبرالي العربي، ولكن هل من مهامه كذلك «ان يعيد الاسلام المختطف الى المسلمين نقيا طاهرا قويما»، كما يطالب د.النابلسي؟ ومن سيشهد لاسلام الليبراليين هذا بالنقاء والطهارة والاستقامة؟ هل واجب الليبراليين اختطاف رأيه «الاسلام النقي» من الاحزاب الدينية، ومخاطبة الجماهير من جديد بخطاب ديني – علماني ممتزج هلامي التركيب، ام التركيز على تعددية الاحزاب والثقافات والايديولوجيات، بشرط عدم الاعتداء على مبادئ الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان؟
ان الليبرالية باختصار هي «حرية الفكر والعقيدة والاقتصاد»، وكل مستلزمات بناء هذه الحرية وحمايتها وما ينجم عنها من مؤسسات ومن علاقات، وهذا يعني السماح لكل من يحترم هذه الحرية ولا يدينه القضاء بالعمل على هدمها، بممارسة كافة الحقوق والالتزام بكافة الواجبات، مهما كانت طبيعة افكاره الدينية والسياسية ومهما كانت درجة تعصبه وتقديسه لرموزها وطقوسها، مادام يحترم الدستور وحرية وعقائد الاخرين.
ومن هنا، فالليبراليون لا يزعمون في اعتقادي المتواضع، ان لديهم وحدهم «الفهم الصحيح للدين»، كما يعارضون مزاعم مماثلة من أي طرف آخر، ويشجعون افساح المجال لكل العقائد ومحاولات الفهم، انطلاقا من اعتبار الدين والعقيدة مسألة شخصية بين الانسان وما يؤمن به، دون فرض الانسان عقائده او دينه او مذهبه على البلاد والشعب وقوانين المجتمع.
ماذا عن «العلمانية» في ظل الربيع العربي؟
العلمانية ككلمة، يقول المفكر الاكثر نشاطاً والاغزر كتابة وترجمة في هذا المجال «هاشم صالح»، لاتزال «تشكل مايشبه البعبع المفزع بالنسبة ليس فقط للجمهور العام وانما ايضاً لقسم لا يستهان به من المثقفين العرب. فعندما نقول نريد دولة علمانية فكأننا نقول دولة إلحادية، وهذا شيء مناقض للحقيقة تماماً. فالدولة الالحادية هي تلك التي اسستها الشيوعية وفرضتها على جمهوريات الاتحاد السوفيتي طيلة سبعين سنة».
بم يمتاز الغرب الاوروبي مثلاً في هذا المجال؟ يجيب: «ميزة الغرب الاوروبي هي انه يسمح بالتدين وعدم التدين في فرنسا مثلا يمكن لاي شخص ان يمارس طقوس دينه سواء كان مسيحياً او مسلماً او يهودياً او بوذياً، ولكن يمكنه ايضاً ألاّ يمارسها على الاطلاق، ويظل مع ذلك مواطناً يتمتع بكافة الحقوق».
مثل هذا التسامح والحياد لايزال بعيداً عن الواقع العربي، والسبب، يقول هاشم صالح، «لان المعركة بين الافكار الحديثة والافكار الاصولية لم تحسم بعد، او قل انها محسومة بشكل كلي تقريباً لصالح الافكار الاصولية المتغلغلة في اوساط الشعب والجماهير الغفيرة».
هذه المعركة، يقول، «لن تحسم سياسياً قبل ان تحسم فكرياً، وهي المعركة العظيمة، ام المعارك». (الشرق الاوسط، 2012/4/3).
ولكن المعركة الفكرية، لسوء حظ العلمانية ومناصريها، ربما لن تحسم في اطارها النظري الا اذا تهيأت الارضية السياسية لانتصارها باختصار، لا احد قادر على ان يحسم هذه او تلك، وقد تطول المنازلة.
ان العلمانية تقول «نيويورك تايمز» الامريكية، لها معان مختلفة في بلدان الربيع العربي. فالمغرب مثلاً يوصف الملك فيها بانه ولي امر المؤمنين على الرغم من ان المؤسسة الحاكمة توصف عادة بالعلمانية، بمعنى ان لها اتجاهات غربية ليبرالية اجتماعية نسبياً، ومناهضة للاسلاميين. وينطبق هذا على ليبيا، حيث تم وصف الفائزين في انتخابات العام الماضي بالعلمانيين لانهم هزموا الاخوان المسلمين وحلفاءهم، لكن على الرغم من هذا، دعا هؤلاء «العلمانيون» الى تطبيق الشريعة جزءاً من الدستور المقبل. وفي مصر يفضل العلمانيون وصف انفسهم بـ «المدنيين» لا العلمانيين. وهذا ما لم يدركه ربما الرئيس التركي «اردوغان» عندما زار مصر في 2011، محاطاً بهالته الاسلامية ، وسط ترحاب الاخوان المسلمين، «لكنهم ما لبثوا ان ابتعدوا عنه بعد ان حثهم على تبني النظام العلماني في الحكم». [الوطن، 2013/3/16].
ازمة العرب في تحليل هاشم صالح لا تقف عند العلمانية، فجذور هذه المحنة سببها ضعف تأثير حركة الانوار والتنوير العربية، والتي تجاهلها العرب طويلا، يقول: «عندما انخرطت قبل ربع قرن في نقل فكر التنوير الأوروبي الى الساحة العربية أو نقل الفكر العقلاني عن الاسلام صرخوا في وجهي قائلين: يا أخي نحن تجاوزنا كل هذه الأشياء من زمان! نحن أصبحنا تقدميين مستنيرين، فلماذا تعيدنا الى هذه الأشياء القديمة التي عفّى عليها الزمن؟ كادوا يقولون: نحن أرقى من فرنسا وسويسرا والدنمارك.نحن هضمنا كل الثورات العلمية والفلسفية والدينية وكفى الله المؤمنين شر القتال.وربما أضافوا: الفكر العربي لا يقل حداثة عن الفكر الأوروبي وجماهيرنا لا تقل استنارة عن جماهير أوروبا الغربية أو أمريكا الشمالية.ماذا تستطيع ان تفعل أمام منطق أعوج كهذا؟ كيف تواجه مكابرات من هذا النوع؟ اما ان تستسلم واما ان تقاوم حتى لو أصبحت وحيدا مهمشا.
«الشرق الأوسط 2013/9/27»
وكان صالح قد نبّه بيأس شامل قراءه قبل عام، وفي الصحيفة نفسها 2012/11/27، انه «لا مجال لنجاح التنوير في العالم العربي، بل والاسلامي كله في المدى المنظور»، واضاف منتقدا سذاجة وتعجل جيله: «كنا نعتقد انه يكفي ان نؤلف كتابين او ثلاثة لكي نصبح في مصاف الشعوب المتقدمة، ولكن أليس مفجعا انه بعد قرنين من محاولة النهوض وتراكم الانجازات الفنية والتعليمية، أعطت الانتخابات المصرية الاغلبية للاخوان والسلفيين؟».
وتساءل بحيرة: «لماذا كانت الثورات الأوروبية تشكل كلها قطيعة مع الرواسب اللاهوتية في حين ان الثورات العربية تشكل عودة اشتياقية متحمسة اليها؟، لماذا كانت ثوراتهم تعانق المستقبل في حين اننا لم نشبع بعد من معانقة الماضي؟ ولم اجد جوابا إلا عن طريق القول بان الربيع الفكري العربي لم يحصل بعد، فكيف يمكن ان يحصل الربيع السياسي، فما لم ينبثق تفسير عقلاني جديد للتراث الاسلامي العظيم فلا مستقبل ولا مكانة للعرب على مسرح التاريخ، لهذا السبب بالذات فشل الربيع العربي وتحول الى خريف اصولي».
لابد اذن من ميلاد جديد للعقل والثقافة في المجتمعات العربية كي يزدهر ربيعها، ولكن ما القيم الاساسية التي على الثقافة العربية الجديدة ان تتبناها؟ تساءل د. شاكر النابلسي قبل اشهر، واجاب: «هناك خمس قيم أساسية على الثقافة العربية ان تتبناها، وتأخذ بها. وهذه القيم في حاجة ماسة الى دعم ثقافي خارجي لتخصيبها، وتنميتها داخلياً، لأنها دخيلة على ثقافتنا، وعلى ذهنيتنا.وخيارنا الوحيد، هو اقتباسها من الحضارات الأخرى التي زرعت، ورعت هذه القيم، وهي:
الفكر النقدي، والفرد المستقل، وحقوق الانسان، والحداثة السياسية، والاقتصاد الحديث.
فثقافتنا السائدة، لم تعترف على غرار ثقافات ما قبل الحداثة بالفرد، الذي يختار لباسه، وطعامه، وأفكاره، وقناعاته، وقيمه، باستقلال تام عن سلطة التقاليد العائلية، والقبلية، والاجتماعية.فقيم حقوق الانسان ليست غريبة على ثقافتنا فحسب، بل ان قيمنا الثقافية التقليدية الراسخة مناهضة لها، وترى فيها تهديداً وجودياً لها. «الجريدة: 2013/5/8»
إن هذه القيم الخمس رائعة بلا شك، ولكن ما الجدول الزمني اللازم لتفعيلها في مجتمعاتنا المتعطشة للإصلاح؟
تعليقات