ندوة رابطة الأدباء حول رواية علاء الجابر

منوعات

862 مشاهدات 0


العنزي: هولندا لا تمطر رطباً تجربة إنسانية تحولت إلى وعي
سكينة: درست العنوان سيميولوجيا وثيمة الأقرباء سيكولوجيا

وحلت في مستهل الندوة التي أدارتها الأديبة وأمين سر الرابطة أمل عبدالله، أستاذة النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية الدكتورة سكينة مراد، التي رأت أن بنية الرواية جاءت في حلقات تمثّل محطات هامة في حياة الكاتب، استطاع معها بأسلوب روائي متقن، أن يصوّر أجزاء من سيرته الذاتية بإيجاز وصدق ووضوح، والواقع أن كل حلقة من هذه الحلقات هي بمثابة لحظة لقاء البطل مع حدثٍ معين وشخصية مغايرة أمكنه من خلالها تكوين علاقة في التواصل من نوع جديد، والتي تمكننا من الكشف عن بعض مشاعره وأحاسيسه الداخلية، وأحياناً أخرى كانت بمثابة فكرة معينة عبر مواقف متعددة استفاد منها الكاتب الكثير في حياته.

وذكرت د. سكينة إن هذه البنية لم تكن تقليداً في تقنية الرواية، حيث أن تسلسل أحداثها لم يكن قائماً على التسلسل الزمني، بل إنه اعتمد على الحلقات المتقاطعة في الكلمة، أي أن الكلمة الأخيرة أو الفعل في نهاية كل جزء من أجزاء الرواية كانت تمهّد لبداية حدث جديد.

    ومضت تقول: رغم تعدد وتنوع الثيمات إلا أننا في هذه الدراسة، سنركز على جانبين هما: دراسة العنوان دراسة سيميولوجية، دراسة ثيمة الأقرباء دراسة سيكولوجية، وذلك عن طريق التركيز على بطل الرواية وتكوين شخصيته عبر علاقته بالأقرباء ( الأم – العمة).

وقالت د.سكينة: لقد أثار عنوان الرواية تساؤلات كثيرة، لما يحمل في طياته من معانٍ ودلالات لفظية عميقة تثير جدلاً لدى القراء، لما يشوبه من الغموض أحياناً، فالعنوان تتحكم فيه أفكار لا يمكن إدراكها إلا من خلال مقاربة رموزه والتعبير عنها، إذ إن كل قارئ يفهم على قدر من بساطة الكلمات ويفسّر بحسب معرفته الخاصة.

وعن العلاقة بالعمة كتبت د. سكينة في دراسة سيكولوجية لثيمة الأقرباء (الأم – العمة)     أنه منذ البداية نتعرف على الأم عبر صورة من ذكريات الماضي التي شكلت غلاف الرواية، بنظراتها البريئة، ثم نعود لنتعرف إلى العمة عبر قراءة كلمات معبرة شغلت صفحة الإهداء... الأمر الذي يفصح عن مكانتها في نفس الكاتب. وعندما نتعمق في حياة بطل الرواية من خلال الأحداث، نتلمس معاناته عبر الرحلة الطويلة التي استوقفتنا في محطات كثيرة ومتنوعة، والتي اكتشفنا من خلالها بعض المبادئ والتقاليد والموروثات التي تتحكم في سلوكه، وفي تحديد بيئته، ثقافته، مهنته، عاداته وعلاقته مع الآخرين. إلا أن تكرار الإشارة المباشرة إلى العمة بين حين وآخر، ربما يؤكد على العالم الداخلي للبطل، وعلى أهمية دور العمة في حياته، وتأثيرها في تكوين انطباعاته.

     وقالت: 'وقد صور الكاتب هذا التأثير تصويراً واضحاً في أحداث متعددة ومواقف جمة احتلت العمة فيها مساحة بالغة الأهمية، والذي أثار انتباهنا أكثر أن دور الأم في هذه الأحداث في مقابل دور العمة، كان دوراً عابراً، وكأنها لم تكن موجودة في حياة البطل، بل كانت حاضرة في ذهنه وفي عقله الباطن. وربما يشير هذا إلى وجود هاجس عند البطل لا يمكن سبر غوره إلا بتتبع بعض الحقائق من خلال انفعالاته والبحث في الترسبات المكنونة في أعماقه. وقالت إن الأجزاء الأخيرة في الرواية ساعدتنا في استكمال الخيط الذي نتتبعه –في علاقته بالأم والعمة- وتحديداً عندما تدفق الكلام على لسان الأم لأول مرة في حديثها المباشر مع زوجة الابن، التي كانت بالنسبة لها المتنفس الوحيد، والعامل المساعد في البوح عن حقائق قديمة لم تكشف عنها من قبل.

وذكرت أنه على الرغم من أن الزوجة لم تحتل في أحداث الرواية إلا حيزاً صغيراً، إلا أنها كانت العنصر الفاعل لتحريك الحدث وتغيير مساره، وتحديداً في علاقة البطل بعمته التي كانت في نظره مثلاً أعلى. لقد استطاعت الزوجة أن تخلق لحظة التحول في اللاوعي عند البطل، وهي لحظة الانكسار الداخلي، انكسار صورة العمة في مخيلته. إن بطل رواية لم يعبر عن هذه اللحظة بأسلوب مباشر ربما لأنه لم يتمكن من أن يمحي حبه لعمته تماماً، ولعدم قدرته على ربط العاطفة المتمثلة في الأم بالواقع المحسوس المرتبط بالعمة ومواقفها تجاهه، لكن هذه التأثيرات تراكمت في نفس البطل،فعمد إلى ترجمة عالمه الداخلي في حدود التلميح والإشارة بأسلوب خاص مكتوب على الورق، في كثير من المواقف. لم يكن الكاتب واضحاً في موقفه بين هاتين المرأتين: هل كان يتعاطف مع الأم؟ أم أنه كان يميل إلى العمة؟ لقد كان ذلك كله مجرد مواقف يذكرها دون أن يصرح عن موقفه، على أن الصورة الدلالية للأم، والتي أخذت أولويتها في الغلاف –رغم أنها لم تأخذ دوراً رئيساً في الرواية- عبّرت عن اللاوعي لدى البطل باعتباره لا يستطيع التخلي عنها، كما كانت بمثابة رد اعتبار للأم لمعاناتها السنين الماضية.

ثم تحدث أستاذ النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية د. علي العنزي عن ثيمة (المنفى) في هولندا لا تمطر رطبا، معتبرا أن أدب المنفى بات سمة غالبة رغم أن الثيمة قديمة قدم البشرية، فأول المنفيين أبونا آدم إلى الأرض، ومن يومها والبشرية تحلم بالرجوع إلى الوطن/الفردوس الأم، كما أن ثيمة النفي مهيمنة على العهد القديم، في حكاية نبوخذ نصر مع اليهود، وكان التيه خاتمة أهم أعمال الأدب الإغريقي أوديب ملك لسفوكليس، دع عنك هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي تعد الحدث الأهم في الإسلام.

وقال العنزي، إن أدب المنفى أدب يلازمه حدث ما، وهناك اعتقاد شائع خاطئ، وهو أن (أدب المنفى) متعلق بـ (المكانية)، أي مفارقة الوطن جسدياً، إلا أنه في مستوى آخر قد يعني  فإن الاقتراب الروحي من المكان، وما المنفيين إلا أناس كانوا يقيمون في المكان وأصبح المكان يقيم فيهم، مؤكدا أن أدب المنفى مترع بالعواطف، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تكون الكتابة الاسترجاعية هي السائدة، حيث اعتمد الراوي على ذاكرته، التي هي أسّ الكتابة الروائية عن المنفى.

وأضاف العنزي، أن النص تطفر منه رائحة كل أرض عاش فيها علاء، وهذه الرائحة التي نفتش عنها في كل رواية، نشتمها لدى كتابنا الذي امتاح مادة الرواية وأسئلتها من تجاربه بشكل رئيس.

واعتبر العنزي أن جسم النص رتبه المؤلف ترتيباً خاصاً وطبقاً لقواعد خاصة، ومزاج معين، مقسما الأحداث المسرودة إلى 3 أقسام على النحو التالي: رحلة المنفى من الكويت إلى هولندا (وهي لب الرواية حقيقة) شقاوة المراهقة في الكويت (وهي مرحلة هجين تسبق رحلة هولندا) ثم العمة نورا ذات الشخصية الطاغية، وهكذا إذن فإن زمان الرواية متشظ، تتداخل فيه الأزمان، وهو زمان متناغم مع ذات البطل المتشظية في المنفى.

واعتبر أن الرواية تثير التساؤلات التالية: مرحلة التيه في هولندا (حيث يسأل السارد سؤالا هاماً من أين جئت؟) ثم الشعور بالغربة في هولندا (البلد الذي يحمل السارد جنسيته): لدرجة 'شعوره أنه سائح في بلده' (أو لنقول: كيف أكون سائحاً في بلدي؟؟!!!!!) وأخيرا وليس آخرا الإحساس بأنك غريب في البلد الذي انعجنت فيه!!! وهو الذي تسلسل دراسيا بالكويت بكل المراحل وهكذا إن فإن السارد يعيش - بالمعنى المجازي للمنفى - منفى الوطن مكاناً وروحاً،الذي هو أقسى أنواع النفي!!

وأوضح العنزي، أن الكاتب اتكأ في أغلب مراحل الرواية، للتعبير عما يستهدفه من أفكار ودلالات، على المفارقة Irony/Paradox، ولعبة التناقضات Contradictions، وكل ذلك بتقنية الـــ(قطع المكاني)، حيث ينتقل بالأحداث ما بين هولندا والكويت والبصرة، متحدثا تارة عن دان هاغ، وأخرى عن المنصورية والدسمة، ثم البصرة وضواحيها وهلم جار، وكأننا أم مشاهد سينمائية يتم خلالها تجميد الزمن والتحرك عبر المكانمنتقلا ما بين بين ثم يعود لمتابعة الأحداث. إن لعبة التناقضات/المفارقات تنسجم مع التناقض الداخلي الذي يشعره السارد تجاه الحياة.

وقال العنزي إن النص مليء بالـــمفارقات والسلوكيات المضحكة للمغتربين: المهاجرين من تركيا من العراق والمغرب ولبنان بالمقارنة مع نقيضهم الهولندي المتحضر، حيث أن الأتراك يحادثون أي شرق أوسطي بالتركية، والعراقيون يعتقدون أن برد هولندا عقوبة من الله، فيتساءل السارد ما تفسيرهم لشمس العرب الحارقة، فيما المغاربة يصفعون أطفالهم فتأخذهم الحكومة الأكثر رأفة بهم من أهاليهم، وأبو أياد اللبناني يخطف ابنته من زوجته الهولندية حتى لا تتغرب. أيضاً هناك الجسد المبراد للسارد، المتعود على الأجواء الدافئة في الوطن، في مقابل الصقيع الهولندي في المهجر، وهناك جارته البولندية التي تعزف البيانو وعواجيز العرب الذين يموتون قبل أوانهم ما بين الشكوى والتواكل. مؤكداً العنزي أم السارد ذاته بالنسبة له ما هو إلا بيرنجيه في مسرحية الخرتيت، حيث الآخر المهندم والنظيف الذهن وعالي الكعب، الذي ينظر إلى بيرنجيه نظرة أدنى، لكن حين حلت موجة الإمساخ إلى خراتيت، كان الجميع من بين الممسوخين، وظل بيرنجيه وحيدا في مدينة من الخراتيت!!!

وأضاف: 'غني عن البيان أنه رغم أن النص مليء بالنوادر اللاذعة، ولكنها لم تأت لتسلي القارئ، وتفريج كربه، وإنما لتقويض البنية الاجتماعية الخربة،  وفي كل الأحوال، فإن المنفى عند علاء لا يفرق بين منفيّ عربي وآخر أجنبي؛ حيث يظل هاجس المنفيّ دائما هو الانزعاج من رغبة الآخر في إذابة هويته، يقول بطل الرواية: (هل أصبحت هولنديا الآن؟ هل أنتمي بجسدي الضئيل وروحي المتعبة إلى هؤلاء؟) وفي موضع آخر: (سرت باتجاه الموظفة البشوشة تصورت أنها ستمد يدها لروحي الكامنة في جوفي، لتنتزع من عمق أحشائي صوت فيروز، موسيقى عبدالوهاب،وأنين حسين نعمة... أو ربما تلغي صورتي أمام تمثال بدر شاكر السياب على ضفاف شط العرب، وجنون المراهقة في حفلات حمد سنان وكرامة مرسال).

ويردف: وهكذا إذن فإن كتابة السرد الذاتي، تشكل ملاذا بما تتيحه للكاتب من إعادة كتابة الماضي بوصفه بنية تفوق بنية المنفى، مبيناً  أنه يبقى لدينا سؤال آخر، وهو: لماذا يلجأ علاء إلى رواية المنفى؟ معتبرا أن المنفى لتسجيل الوقائع موضوعيأً، كشهادة شخصية على عذابات الواقع وتناقضاته المؤلمة، وهو ما يمنح الروائي مساحة من الحرية لم تكن متاحة من دون هذا القناع على مستوى هواجس الكاتب، وأحلامه المقموعة، وممارسته العاطفية، ومواقفه السياسية، وبعض الآراء الدينية، وهو هامش ما كان له أن ينفتح على وسعه لولا فسحة المنفى الكتابية باعتبار أن المنفى هو مسرح الوقائع والأفكار والهواجس.

وختم العنزي، إن أن المنفى، نافذة للتعبير عن سطوة البنية الراهنة،  وما هولندا لا تمطر رطباً، إلا (تجربة) تحولت إلى وعي، حيث يضطر الروائي لأسباب (سياسية، اقتصادية... أي كان)  الى اللجوء لبلاد أخرى تعتبر منفى أو بلد مهجر أو دولة  لجوء، أو شتات فلنسمها ما شئت، ولذلك فإن (المنفى الهولندي) لا ينظر إليه بوصفه آخرَ معاديا، أو بنية مضادة تستهدف الهوية، وإنما بوصفه مسرحا مشابها؛ 'أعني أن المنفى هنا مجرد محاكاة للبنية الأولى، (الكويت، البصرة، أو أي مكان آخر)'.

وقال إن مشكلة الراوي في هولندا لا تمطر رطباً ليست مشكلة عدم انتماء، بل الانتماء لأكثر من جذر حيث أنه كالشخصية الكوزموبوليتية، المؤمنة بالانتماء الأوسع للإنسانية، وأيا كان المنفى فإنه بالنسبة لعلاء جغرافيا جديدة تسمح له بالنظر الى الجغرافيا القديمة بعين جديدة، حيث تمنح العلاقة مع ثقافة أخرى، فرصة للسارد لتحديد نظرة سلبية أو إيجابية تجاه البلد الأصلي.

وختم بالقول: 'نحن نعيش في عصر 1 % يحكمون و 98%  نحن المحكومين، وهناك  1 % من الكتاب، هؤلاء يسمون على وضعية الحاكم والمسود ويتوجهون إلى ما هو جوهري في الكون، أي إلى الإنسان، محاولين تمجيد قيمه واحترامه واغتناء كرامته وكبرياءه، حيث أن الشعوب مختلفون وهناك فروق ثقافية، لكن هناك الجوهري الذي يوحدنا، وهو الإنسان الذي ينتمي إلى العالم وينتمي إليه علاء.

الآن - المحرر الثقافي

تعليقات

اكتب تعليقك