مصل أكاديمي مضاد للتطرف.. يكتب عبداللطيف بن نخي
زاوية الكتابكتب فبراير 19, 2015, 6:21 م 1735 مشاهدات 0
اثناء مناقشة رسالتي لدرجة الدكتوراه تفاجأت بالدكتور غراهام غالبريث، وهو أحد الممتحنين، يخطئ إحدى المعلومات التي كانت مذكورة في فصل الدراسات السابقة من مسودة أطروحتي. لا تزال تلك اللحظات حاضرة في ذهني بوضوح، حيث كنت متلهفا لأعقب عليه فور انتهائه من عرض ملاحظته، وكان لي ذلك. قلت مبتسما بأنني استقيت تلك المعلومة «المغلوطة» من بحثه، هو شخصيا، المنشور في مجلة علمية مرموقة قبل عام ونيف. فرد علي بثقة واطمئنان مؤكدا صحة كلامي ولكنه استدرك قائلا بإنه بصدد نشر بحث لاحق ليصحح استنتاجه السابق، وفق ما استنبطه لاحقا بعد تنفيذ المزيد من التجارب حول تلك الجزئية.
الاستاذ غالبريث أراد أن يساعدني في تطوير أطروحتي في الوقت الذي كنت اقف منه موقف الخصم فأسقطت اللوم عليه بشأن تلك الكبوة. الغريب أنه لم يغضب من موقفي الدفاعي واستمر في إيجابيته معي ونصحني بأن ألحق، بالمعلومة المنتفية، المستجدات التي توصل هو إليها، علها تكون مرجعية التحديث إلى المناقشة المباشرة مع شخصه.
حضر غراهام إلى جلسة المناقشة بنفس المعلم والمقوم للأطروحة أكثر من صفته الرسمية كممتحن لمؤلفها. لقد كانوا، هو ومن معه في الجلسة، شركاء لي في أطروحة الدكتوراه. فبعد الانتهاء من مناقشة رسالتي، انتظرت في مكتبي مع أحد أصدقائي لاستقبل اتصالا من أستاذي يطلب عودتي إلى اللجنة لسماع قرارهم بشأن رسالتي، فإذا بهم يأتون لمكتبي ليهنئونني. لاشك أنها ثقافة الشراكة من أجل العلم والمعرفة، ثقافة لا مكان للتطرف في قاموسها.
غراهام، وكثيرون مثله من الأكاديميين، لا يتطرفون لمعارفهم لأنهم يؤمنون بأن هناك درجات متعددة للمعرفة ولكل درجة منها أدبيات. في المقابل الشعوب المتناحرة تتعصب لمعارفها فلا تحترم حق الآخر في الاختلاف، وتصر على وجود درجتين فقط من المعرفة وهما الحق والباطل. لا أريد الولوج في بحث حول مراحل المعرفة في المنظور العلمي أو الفلسفي أو الديني، ولكن أنشد الخروج بالقدر المتفق عليه وهو أن للمعرفة رتباً متعددة بحسب درجة القطع والجزم بمطابقة المدرك من المعرفة بالواقع. المستوى الادنى من الاطمئنان للمعرفة يتضمن المعلومات المكتسبة عبر منهجيات غير مقبولة أكاديميا. مثل استنتاج نيوتن بأن الاجسام تنجذب نحو مركز الأرض بعد تفسيره، دون تفاصيل وبراهين، لظاهرة سقوط التفاحة من الشجرة عموديا إلى الاسفل. المجتمع الأكاديمي يشجع تداول معارف من هذا المستوى بين أهل الاختصاص وكفرضيات من أجل استثارة البحث العلمي حولها لتأكيدها أو نفيها. المستوى الأرقى من المعرفة يشمل النظريات والقوانين المستنتجة وفق منهجيات علمية متعددة والمتوافقة مع شواهد ملموسة. ومن أمثلته قانون الجذب العام لنيوتن في القرن 17، الذي يصف ويحدد اتجاه ومقدار قوة الجذب بين أي جسمين (كالتفاحة والأرض) وفق معادلة حسابية. في العالم الأكاديمي، المعارف المصنفة في هذا المستوى أيضا قابلة للتطوير والاستبدال، كما حصل لقانون الجذب العام بعد ظهور نظرية النسبية لآينشتاين في أوائل القرن السابق. وهذه النظرية بدورها أدرجت أيضا ضمن المستوى الأرقى للمعرفة، وهي بذلك يحتمل أن تستبدل لاحقا حسب الاكتشافات والنهضة المعرفية المستقبلية.
الاكاديميون الحقيقيون،لا الكرتونيون، لا يتعصبون لمعارفهم وإن كانوا هم مؤلفوها أو مكتشفوها، لذلك تجدهم يكرسون جل طاقاتهم نحو المزيد من المعارف من أجل كمال البشرية.
إن التعصب للموروثات والممتلكات المعرفية سبب رئيسي في تخلف الشعوب وعامل أساسي في انهيار الامم. ومن هنا أتساءل:
لماذا لا نطعم أنفسنا بمصل أكاديمي مضاد للتعصب لمعارفنا؟
مصل يمنع طرح موضوعات تخصصية غير محصنة علميا (وفق معايير العلوم الدينية أو الدنيوية) بين عوام الناس، ويوقف عرض نظريات (موثقة أو مبرهنة) بطريقة معيبة للنظريات المقابلة لها وللشخصيات التي تتبناها، ويزيل عوائق حرية التفكير والبحث العلمي. هذا التطعيم الأكاديمي سوف يعيد ترتيب أولويات مجتمعنا، فيسقط المشاركة الحزبية والفئوية في التخندق الاقليمي ويستبدله بالاصطفاف الوطني بوجه الفساد المحلي. يا ترى هل سيعزز ذلك المصل لحمتنا ونسيجنا الوطني؟، وهل سيساهم في تأهيلنا لنهضة تعيد لنا موقعنا كدرة الخليج؟ بادر بنفسك وشجع غيرك، على احترام حق الآخر في الاختلاف، لأن الكويت غالية وعيالنا يستاهلون.
تعليقات