عبد الرزاق طفيل يكتب - ازالة البرمجة البشرية
زاوية الكتابكتب يونيو 14, 2015, 11:35 ص 877 مشاهدات 0
الإنسان ذلك المخلوق الغريب ذي القدرات الهائلة من الإبداع والبناء في شتى مجالات الحياة لم يكن له ليتسنى ذلك لو لا البرمجة أو التعليمات التي خزنها في عقله وأصبحت محفوظة و مخزنة في ذاكرته منذ بداية حياته ونشأته و تظل معه إلى فترة متقدمة من عمره ما لم يصاب بخلل في دماغه لأي سبب كان .
و تبدأ مراحل برمجة الإنسان منذ الطفولة المبكرة ، عن طريق الأم غالباً ، أو المربية ، ثم يقوم الطفل بإضافة إلى تلقي البرمجة المنظمة أو الغير منظمة من القائمين على تربيته ، بالبرمجة الذاتية العشوائية على حسب ما يحصل على خبرة ذاتية من تجاربه الشخصية ...، ويستمر الحال على هذا المنوال خلال المراحل المختلفة من حياته و إن كانت مصادر البرامج تختلف ، فهي تتنوع بين تعليمات المدرسة والشارع والأصدقاء والناس و وسائل الوسائط المتعدد بين التلفاز و السينما والإنترنت عبر الحاسوب أو الكمبيوتر
و أنواعه المختلفة من الابتوب والكمبيوتر أللوحي والهواتف المحمولة المتنقلة الذكية التفاعلية والكتب والصحف والمجلات و غير ذلك من التجارب الشخصية في مناحي الحياة المختلفة .
وتزداد حيرة الإنسان كلما كان دماغه مبرمج بالتعليمات الكثيرة وبعضها متعارض للآخر عن طريق ما يتم إدخاله إلى دماغه من قيم و عادات مغايرة لما عرفه من بيته و مجتمعه عن طريق الأسفار والبرمجة الغربية عن طريق التعلم في الخارج ولفترة طويلة تمتد إلى عدّة سنوات من الغربة عن أهله و مجتمعه .
تكون الطامة الكبرى لو كان هذا الإنسان فتاة نشأت في أسرة محافظة ، ثم تحررت من كل القيم و القيود في الخارج خلال سنوات دراستها ، ثم عادت لوطنها المحافظ كفتاة متحررة مختلفة رأساً على عقب ، أو مقلوبة 180 درجة ، تعشق الحياة خارج بيتها مع أصحابها ، لاهية مع سهراتها الماجنة بين أدخنة السجائر
و الشيشة والمواد المخدرة و الكحوليات والمعيشة ( البوهيمية Bohemian ) و الرجوع إلى منزلها مع ساعات الصباح الباكرة .
هنا ، تعصف في ذهن أهلها عشرات الحلول الشرقية من مثل تزويجها الفوري والتخلص من شّرها و حتى قتلها للتخلص من العار الذي لحق بالأسرة المحافظة جرّاء سلوكها الشائن .
وقد تلجأ أسرتها إلى إعادة برمجتها بالكامل ، حتى تعود إلى جادة الصواب ، أي عملية إعادة غسيل الدّماغ Brainwashing ، إن عملية غسيل الدماغ ليست عملية عشوائيـة ، بل هي عملية يتم التخطيط لها من ذوي التخصصات والخبرات في هذا المجال كالخبراء العسكريين والعلماء في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الآنثروبولوجي وعلم الفسيولوجي ، إضافـة إلى ما يتوفر لدى القائمين عليها من استعدادات وقدرات فرديـة كالكاريزما والشخصية القوّية المسيطرة .
غسيل الدماغ هو استخدام أي طريقة للتحكم في فكر شخص واتجاهاته دون رغبة أو إرادة منه، ويسمى أيضا غسيل المخ أو الدماغ أو التفكيك النفسي .
ويمكن تعريفها بأنها ( العملية التي يقصد بها تحويل الفرد عن اتجاهاته وقيمه وأنماطه السلوكية وقناعاته وتبنِّيه لقيم أخرى جديدة تفرض عليه ممن يأسره ) ، فغسيل المخ هو محاولة تغيير الاتجاهات النفسية وهو محاولة لتوجيه الفكر الإنساني ضد ما سبق أن اتخذ من عقائد وميول وهو إعادة تعليم وتحويل من إيمان بعقيدة معينة إلى كفر بها وإيمان بنقيضها.
اقترن اسم البروفيسور( إيفان بتروفيتش بافلوف )، أستاذ علم وظائف الأعضاء الروسي بعملية غسيل المخ ، نتيجة تجاربه المتقدمة على غرائز الحيوانات وسلوكها، وقد ركز بافلوف في أبحاثه عن 'نظام الإشارات' وهو ما يقصد به الحس الغريزي الموجه الذي يصل مباشرة بين الحواس، وبين العقل. وانتهت الملاحظة الحاسمة من أبحاثه بتجارب على الحيوان والإنسان لإثبات نظريته 'الفعل الشرطي المنعكس' (Conditional Reflex) وتعني القيام بسلوك معين نتيجة لمؤثرات خارجية، مثل سيل اللعاب عند رؤية الطعام، أو عند حدوث أي أثر مقترن بالطعام. كما توصل بافلوف إلى أنه بتغيير بيئة الإنسان يمكن تغيير طبيعته الذاتية .
لكي تتم عملية إرجاع السلوك القديم المطلوب تقريباً كما كان، يلزم لذلك أولاً نزع أو إزالة البرمجة المغروسة في دماغ تلك الفتاة أو الشخص وهو ما يعرف بمصطلح ' Deprogramming ' ويقوم بذلك أناس متخصصون في ذلك من الأطباء النفسيين وغيرهم من رجال الدين أو المحللين النفسيين وغيرهم مثل المنوّم المغناطيسي ، بشرط أن يكون جميع هؤلاء من أهل الخبرة و الكفاءة والعلم ولأخلاق العالية والوازع الديني ماثلاً أمام أعيونهم ، ولكن مع الأسف الشديد هناك الكثير من الناس في بلداننا الشرقية يلجأون إلي الدجالين والعرّافين وخاصة النساء لهذه الأمور وغيرها .
كثير من الأسر تنفق الأموال جزافاً على الخرافة والدجل وهي في أساسها ضلالات مشتركة واعتقادات خاطئة والجري وراء دوامة من السحر والجن والشعوذة ، وليس لها أي صلة بالعلوم لا الشرعية و لا الغربية ، وقد يلجأ البعض إلى العلاج بالطاقة الحيوية أو ' الريكي '
أو ممارسة رياضة اليوجا لكبح جماح الذات الثائرة الحائرة ، أو العلاج بالإيماء والإيحاء ، وعلم التنويم المغناطيسي أو ' الهبنوزة ' المأخوذة من كلمة ' Hypnosis ' ، بمعنى ( النوم ) ربما تكون من الطرق الناجعة المكملة للطرق الأخرى في سبيل تعديل الانحرافات السلوكية
والعادات المذمومة كالتدخين و قضم الأظافر بالأسنان وغيرها و خاصة لدى الصغار .
إن التغير في الشخصية وتصرفاتها يمكن تفسيره على أنه عملية ( نزع البرمجة أو إزالتها Deprogramming) فكلنا إلى حدّ ما مبرمج (بمعنى أن التربية، النشأة، الجينات، البيئة المحيطة، الغذاء، الثقافة العامة والمباشرة ... كل ذلك يبرمجنا فنحن نكون ما نحن عليه الشخصية ـ كتركيبة نتاج كل هذا. بالطبع فإن هذا البرنامج قابل للتغيير حسب ظروف تغير البيئة المحيطة، السفر للخليج مثلاً. غير السفر إلى أوربا أو أمريكا كل سفر يدخل على البرنامج شيئاً أو أشياء، كذلك فإن الكوارث التي تلم بالإنسان مثل موت قريب أو عزيز أو فقدان ولد أو والد، يؤثر سلباً وإيجاباً على شكل وطبيعة البرنامج الذي يكوننا ونكون ما نحن عليه.
غسيل الدماغ في حياتنا اليومية :
تطبيقات على عمليات غسيل الدماغ ، ممارستها في الحياة اليومية وبشكل منظم ويقع ضحيتها أيضا الكثيرين من المتعلمين أو المثقفين فهي تمارس عبر وسائل الإعلام المختلفة مرئية ومسموعة ومكتوبة في الأخبار و المحاضرات، والندوات وفي الدعايات، و المسلسلات، وفي اللقاءات وغيرها، وقد وقع ويقع الكثير منا ضحية لها مثل مصائد الأسهم والاستثمارات العقارية والشائعات المختلفة .
1- إنّ كثيراً من المنتجين والمسوقين للسلع وللبرامج والمواد الغذائية والمشاريع يروجون لها بألوان مختلفة من الأساليب التي تتأثر بنظريات علم النفس والعلوم الأخرى .
2- تأثرت الجماعات المتطرفة والجماعات الدينية المتطرفة في أمريكيا واليابان والهند بعمليات غسيل الأدمغة على وجه الخصوص واستخداماتها المختلفة واستفادت من الأساليب الدينية المختلفة لتحقيق أهدافها سواء على الأفراد أو المجتمعات وقد وصلت الحالة لبعضها إلى تنفيذ عمليات تخريب وإرهاب ضد دولتهم أو حتى القيام بانتحار جماعي لأتباعها .
3- في مكاتب التحقيق قد يتم غسيل المخ بصورة مقصوده أو عفوية أيضا فقد ثبت إن بعض المتهمين وبالذات إذا كان من البسطاء أو محدودي الذكاء يصل إلى مرحلة شديدة من الإجهاد النفسي أثناء التحقيقات والاستجوابات تؤدي إلى غسل مخه وتقبله للاتهام واعترافه بالجريمة بالرغم من أنه بريء ويتم تنفيذ الحكم فيه .. ويذهب ضحية ذلك .
استندت عملية غسيل المخ على الحقيقة العلمية التي تقول إن الإنسان عندما يتعرض إلى ظروف قاهرة وصعبة تصبح خلايا مخه شبه مشلولة عن العمل والمقاومة .. بل قد تصبح عاجزة عن الاحتفاظ بما اختزنه من عادات .. لدرجة إن مقاومتها للأذى والتهديد الواقع عليها قد ينقلب إلى تقبل أشد واستسلام أسرع للإيحاء ولعادات جديدة أخرى وانعكاسات غريبة قد يتصادف حدوثها في تلك اللحظة .
ومع كل ذلك تحدث تحولات فيها عمليات تصدير إيحاءات وأفكار ورؤى، ' تثقف عكسي ' (التثقف ِAcculturation) ، بمعنى تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدماً ـ في حالات التشبث بالخرافة، البدع، الشعوذة والدجالين، يكون التثقف عكسياً بمعنى أن الثقافة المتقدمة تطرأ عليها تغيرات سلبية نتيجة لاحتكاكها ببيئة أكثر تخلفاً وتردياً، والتأخر والانتكاس(Backwardness) ظاهرتان مستقرتان في التاريخ، وتعنيان تخلف الفكر، أي تأخره عن زمانه وأوانه وانتكاس الثقافة باتجاهها نحو الماضي والاحتماء بها .
وإذا تأملنا حالنا الآن لوجدنا أن تخلفنا وتأخرنا هو نتاج الثقافات المتدنية على كافة المستويات: ثقافة الأرواح والعفاريت، ثقافة الوجبات السريعة أكلاً وفناً ، ثقافة الفيديو كليب وثقافة السيطرة على الآخر وإذلاله نفساً وجسداً، ثقافة الإلهاء الجنسي والاجتماعي، ثقافة القهر والظلم والسطحية وعدم الاكتراث والنرجسية ورفض الآخر وإلغاءه ، وفي خضم كل هذا نحن نجلد ذاتنا كل لحظة فننغلق على ذاتنا كثيراً وننفتح على ذاتنا بدون حساب أحياناً أخرى ، مما يخلق تشتتاً وفوضى وانعدام الرؤيا للتخطيط والحساب .
ماذا يحدث في جلسات الزّار و تحضير الأرواح وإخراج العفاريت ؟
هؤلاء(صيادي العفاريت Ghost Busters ) أكثر حظاً ونصيباً لدي العامة والخاصة، لدى النخبة والدهماء، أكثر حظاً من علماء الدين والطب والمعرفة في وصول القطاع الأكبر ممن يعانون من مشاكل مركبة بغيضة وكريهة أحياناً، يصلون إليهم بسرعة البرق ودون تفكير, هنا يختفي الصدق العادي المؤلم، يختفي وراء الأحجبة ودخان البخور وصيحات المُريدين...
لكن المحيّر والمثير للدهشة هو إعطاء غطاء شرعي لبعض هؤلاء الدجالين سواء كان ذلك على صفحات الصحف أو على شاشات التليفزيون وتحت دعاوى كثيرة منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الإدلاء بدلوهم في أمور المستقبل والحياة والموت من باب الأحلام وتفسيرها ، أو قراءة الطالع من الأبراج وما إلى ذلك ، وقد أُفردت له الصفحات بانتظام في الصحف والمجلات ، ويزداد عدد مُريديهم كلما زاد الهجوم عليهم و نقدهم ! ولذلك تنخفض قيمة العلم والعلماء يوماً بعد آخر فتنداس آرائهم العلمية الهادفة تحت أرجل الجهلة والمشعوذين، فنرى الغش العلني للضمير الإنساني وتمزيق أوصال الناس وتقطيع لحمهم دون رادع ولا واَزع .
ونجد في مشهد العفاريت والسحرة المشعوذين، الدجالين بألف لون ولون يُغيرون وجه الحق بالباطل ويستبدلون الأبيض بالأسود من خلال مجموعة من الأكاذيب، من خلال الحذف والإسقاط والإغفال لكل ما هو واضح والحقيقي والدخول إلى ما هو غريب وبعيد عن المنطق دون هوادة وبإصرار شديد .
وقد قال أحد العلماء يوماً ، إن الناس أصناف و هناك من الناس من يفكرون والبعض يظنون أنهم يفكرون، والأغلب الناس سيموتون قبل أن يفكروا ...
و كذلك فنحن نعلم،والدجالين يعلمون جيداً أن غالبية الناس قابلة للإيحاء Suggestion ويشتد ذلك الإيحاء مع الجهل وانعدام الثقافة وضعف النفس والأنا و الغرور و العنجهية ، التشويش، التكرار، سريان الإشاعات، التأثير الجماعي للعامة، الإحساس الدفين بالذنب لشيء أو لأمر عظيم مما يستوجب التعذيب وصرف كل ما هو متاح ومملوك لإرضاء سيد الجن ، ومما يدعوا إلى ضرورة أن يُذل العبد رضوخاً ، الإحساس بانعدام القوة على المقاومة، على الفعل الإيجابي، فتجد الضحية نفسها مسلوبة الإرادة تتأرجح بين أحاسيس الخوف والأمل والمشي وراء الناس، الانغماس لآخر لحظة مع القطيع البشري .
لكي نفهم ما يحدث لنا وعلينا ـ هنا وهناك والآن ـ أن ننهض ونعي ما يدور حولنا ، منطقياً، وعلمياً، ليس فقط فيما يخص الدجل والشعوذة لكن في كل ما يحيط بنا وما يدخل في قلوبنا ما يدور في أذهاننا كبشر بخصوص هويتنا الثقافية وانتمائنا ، حياتنا، آمالنا، و وجودنا وبالطبع مستقبلنا ، أي' نكون أو لا نكون' فهذا هو السؤال ، وقد تكمن الإجابة علية مع الأجيال القادمة ، من يدري ، فالغدّ هو يوم لم نراه بعد ، و قدّ لا نراه أبداً .
عبد الرزاق طـفـيل محمد
تعليقات