اقتراحات التقشف وترشيد الإنفاق باعتقاد ناصر المطيري حلول منقوصة

زاوية الكتاب

كتب 924 مشاهدات 0


النهار

خارج التغطية  -  'النموذج اليوسفي' في مواجهة العجز الاقتصادي

ناصر المطيري

 

على أثر ما تواجهه البلاد من عجز في الميزانية بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط حسب ما تدعيه الجهات المالية في الدولة تكثر الاجتهادات والمقترحات لعملية الاصلاح الاقتصادي سواء من جانب الحكومة أو من جانب البرلمان، ولكل مقترح آثاره السلبية على المواطنين بشكل أو بآخر، ولا يحقق القبول والعدالة في المجتمع.. غير أن كل مايُطرح من اقتراحات اقتصادية تتضمن التقشف وترشيد الانفاق هي حلول منقوصة وبعيدة عن النهج الاسلامي الذي ترسمه قواعد ومبادئ الاقتصاد الإسلامي، فأهل الاختصاص في الاقتصاد الإسلامي يعلمون أن الشريعة الإسلامية وضعت منهجاً اقتصادياً واضح المعالم لمواجهة حالات الوفرة وحالات الندرة التي تمر بها الأمة، وهو منهج لو تمَّ تطبيقه بشكل صحيح يعتبر صالحاً لكل زمان ومكان.
ولقد رسم القرآن الكريم نموذجاً للتخطيط الاقتصادي تمثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام في قوله تعالى: «يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} (يوسف: 46 - 49).
فتضمن هذا التوجيه القرآني المبادئ والقواعد التي يقوم عليها اقتصاد الأمة في مواجهة سنوات التأزم والندرة وسنوات الوفرة والفائض في الأرزاق، فالتخطيط في حالة الرواج الاقتصادي بظروفه، والتخطيط في حالة الكساد الاقتصادي بظروفه على السواء، فكلا الحالين لا تغني عن التخطيط الرشيد والسديد لإمكان معاملة حالة الغنى ومعالجة حالة الفقر والحرمان، فلا يضل الناس بغناهم، ولا يشقى الناس بفقرهم ويحل بهم الضيق والحرج بسبب سوء التخطيط والتدبير والترتيب.
وتؤكد النظرية الاقتصادية الاسلامية أهمية القدرة والقوة على «التخطيط» للمستقبل، وهو ما أخبر به سيدنا يوسف، فلا تخطيط اقتصادياً رشيداً ولا خطة سوية بغير قدرة فائقة على «التنبؤ» بالمشكلات ووضع الحلول لها عن روية وبصيرة، كما يقول خبير الاقتصاد الاسلامي د.عبدالحميد البعلي.
وجاء في تفسير الألوسي: إن هذه البشارة منه - عليه السلام - لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب يعقبه الخصب، أو لأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما ضيّق عليهم، ثم إنه - عليه السلام - بعد ان فقههم وأرشدهم وبشّرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به ونقول وهذا شأن التنبؤ الصادق.
ويركز النموذج اليوسفي في الاقتصاد على الاهتمام بقطاع النشاط الزراعي كنموذج لتحديد الهدف في الخطة الاقتصادية الرشيدة. كما تتضمن خطة سيدنا يوسف القرآنية الاهتمام بعوامل الإنتاج الاقتصادي بعناصرها الاستثمارية والادخارية، والقوة البشرية العاملة والمنتجة والمستهلكة ويتمثل ذلك في قوله تعالى: «لعلي أرجع الى الناس لعلهم يعلمون» بل كلمة يعلمون تدل على القوة البشرية المدربة العالمة، حتى لا تهدر الموارد إنتاجا أو استهلاكا أو توزيعا، وكذلك تدل كلمة «دأبا» على العمل المتواصل الدؤوب.
كما يشير الاهتمام القطاعي في النظام الاقتصادي الى «الصناعة» المتمثلة في قوله تعالى: {ثم يأتي مِنْ بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}، أي: يعصر الناس ما كانوا يعصرونه على عادتهم من زيت ونحوه، وسكر ونحوه، حتى قال بعضهم يدخل فيه حلب اللبن أيضا، ويقول الألوسي : وفيه يعصرون من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها، أو كما قيل للإشعار باختلاف ما يقع فيه زمانا ومكاناً.
وتشير خطة سيدنا يوسف - عليه السلام - الى ضرورة وضع «السياسات» اللازمة لتنفيذ الخطط الاقتصادية يدل على ذلك الإجراءات المحددة التي ذكرتها الخطة متمثلة في قول الله تعالى: {فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون} {الا قليلا مما تحصنون} وما تدل عليه من عدم الإسراف بل التقليل في الأكل، وترشيد الطاقة الادخارية سواء كان ذلك الادخار لأغراض الاستهلاك والمتمثل في قوله تعالى: {فذروه في سنبله} إلى قوله: {يأكلن ما قدمتم لهن} أي ادخرتم. أو لأغراض الإنتاج أو الاستثمار المتمثل في {إلا قليلا مما تحصنون} أي تحرزونه وتخبئونه لبذور الزراعة.
ولو أسقطنا تلك القواعد التي تناولها النهج اليوسفي في إدارة الاقتصاد لأغنتنا عن الكثير من الاجتهادات والحلول المطروحة، بل يمكن تطبيق هذا النموذج على اقتصادات دول الخليج التي تعتمد اعتمادا كليا على قطاع النفط كمصدر رئيس ووحيد، حيث ان الأعوام الماضية تميزت بوفرة الانتاج وفوائض مالية ضخمة ولكن لم تكن هناك رؤية اقتصادية مستقبلية تتحسب لسنوات التأزم التي بدأت تلقي بظلالها في هذه المرحلة.
نخلص مما سبق إلى أن العودة إلى روح المنهج الاقتصادي الرشيد في الاسلام التي رسمها النموذج اليوسفي كفيلة بأن تكفي الدول لمواجهة العجز الحالي «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها».

النهار

تعليقات

اكتب تعليقك