منذ خمسينات القرن الماضي ونحن نعيش ثقافة الصراع وبث الاختلاف وإقصاء الآخر..برأي محمد المقاطع
زاوية الكتابكتب أكتوبر 2, 2017, 11:38 م 563 مشاهدات 0
القبس
الديوانية- غلوٌّ في خصومة الاختلاف
د.محمد المقاطع
منذ خمسينات القرن الماضي ونحن نعيش ثقافة الصراع وبث الاختلاف وإقصاء الآخر.. نعم، ففي تلك الحقبة من تاريخ أمتينا العربية والإسلامية كانت شعوبنا معبأة بروح وطنية وقومية وإسلامية خلاقة، لقد كانت خطابات التحرر وكلمات الوحدة وأناشيد الاستقلال وطروحات تكامل الأمة تحرّك فينا قدرات كامنة واندفاعاً، وقوده حس وطني لا مثيل له، فقد كانت أغلال الاستعمار ومؤمرات تمزيق الأمة ومحاولات نهب ثرواتها معطيات جوهرية في بعث وتغذية روح نضالية ووحدوية ووطنية متعاظمة.
ولما أدرك الغرب كل ذلك وخطورته، أقدم ــــ وبشكل سريع ومريع ــــ على تكريس تمزيقنا، فبعد أن مزقنا باتفاقية سايكس ــــ بيكو ليقسمنا دولا صغيرة، كل منها خاضعة لنفوذ إحدى دوله وتدور في فلكها، بادر إلى تقديم فكرة جهنمية ظاهرها الوحدة، ألا وهي جامعة الدول العربية التي كانت مشروعا بريطانيا، حتى تذوب أفكار الوحدة المتكاملة، وتبقى حبيسة روابط شكلية لا تملك قرارا ولا تتحد الكلمة، بل تبقى مشتتة في إطار الاستقلال الوطني لكل دولة بحدودها الإقليمية، وهو ما عزز التمزق وزاد التنازع والاختلاف والخصومة بين الدول العربية، وأجهضت مبكرا أحلام الوحدة بين مصر وسوريا، وكانت الأيدي الخفية للغرب المستعمر وبعض الأنظمة العربية السائرة في ركابها تنجز إفشال أي تحرّكات للوحدة والتحرر.
فمن يتعقّب معظم الأنظمة العربية في تلك المرحلة يجدها قد رهنت وجودها بعد انقضاضها على السلطة عبر مجموعة من الأحزاب، الحزب الشيوعي، حزب البعث، حزب القوميين العرب، الحزب الاشتراكي أو أحزاب بلافتات إسلامية، جميعها كانت تستحوذ على السلطة كي تستأثر بها لها وحدها ولإقصاء الآخرين، بل وإذاقتهم ويلات السلطة وسطوتها، مع حرص تلك الأنظمة أن تربط مصيرها وقرارها ومستقبلها بإحدى الدول الغربية، وهو ما زاد تمزيق الأمة وتشتتها وشرذمتها، وصارت ثقافة الاستئثار بالسلطة وإذاقة الآخر ويلاتها تراثا سائدا ومتداولا وبأدبيات مكتوبة، وواقعا بصراع وخصومات وتصفيات انهارت معها كل قيم «الخلاف لا يفسد للود قضية»، وتبددت في ثناياها ثقافة التعايش واحترام الآخر، وسادت حالة التقهقر منذ ذلك الوقت حتى وقتنا الراهن.
واليوم لا بد لي أن أوجه خطابي لورثة تراث وثقافة تلك الحقبة من النخب السياسية والفكرية والثقافية التي تتصدر المشهد السياسي أو الإعلامي أو الاجتماعي والثقافي في عالمينا العربي والإسلامي، لأقول لهم كفاكم غلوّاً في الخصومة ورقصكم على جراح الآخر، فأنتم تزيدون الأمة تمزّقا وتحققون لمعظم الأنظمة مرادها، وتقدمون أمتنا على طبق من ذهب للغرب. فاليوم تعيش التيارات السياسية والفكرية والثقافية لدينا في الكويت أسيرة لتلك الثقافة وإفرازاتها، فبأسها بينها شديد، تتآمر على بعضها، تتحالف ضد بعضها، وتفرح بأن يتعثّر خصومها، بل تشي بهم وتشهر بهم في كل الطرق والوسائل، لم يعد المشروع الوطني يوحدها، بل تلك الثقافة تتحكم بها وترقص زار الشماتة السياسية، وفي النهاية نجد أن البلد هو الضحية، فمن يظن أنه يكيد بتيار آخر أو يضربه أو يضعفه فسيجد نفسه أمام حقيقة مؤلمة، ألا وهي أنه يضرب الوطن ويمزّقه ويجهض كل المجالات لتحقيق المشروع الوطني، وقد أورث ذلك عملا وطنيا عليلا وضعيفا ومتآكلا، وقوى من سطوة الحكومة وتفردها، بل أورث مجلسا للأمة غالبا ما يكون موغلا بالفردية، تتقاذفه المصالح على أقرب ساحل لتحقيق المصالح، خصوصا على ضفاف من يدفع أكثر، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن، ولا أبرئ أي تيار من مساهمته في إضعاف العمل الوطني ومشروعه بكل تياراته وفئاته ولافتاته: قومية، إسلامية، ليبرالية، أو يمينية معارضة، أو موالاة وغيرها، فلا غرابة إذا كانت تلك ثقافتنا وهذه منطلقاتنا في ثقافة الاختلاف الانتهازي والصراع المحموم بالغلو في الخصومة.
إن أهم دور يمكن أن تلعبه أي مجموعة ترغب في انتشال الوطن من حالة التردي والتشرذم الذي بلغناه، هو أن تسعى إلى جمع شتات النخبة، سواء بالتيارات السياسية القائمة أو بعضها أو حتى من دونها، وذلك للنهوض بمشروع وطني واعد يلتقي من خلاله كل أولئك على كلمة سواء، فيها محاور محددة للمشروع الوطني، وهو ما أعكف على وضع أسسه وبنوده ليكون جاهزاً لمن يرغب في أن يساهم فيه، وهو سيتاح لكل أبناء الوطن من دون استثناء.
تعليقات