ندرك أن فصول المؤامرة على الوطن العربي مستمرة لاقتسامنا وابتلاعنا..برأي محمد المقاطع

زاوية الكتاب

كتب د. محمد المقاطع 653 مشاهدات 0

د.محمد المقاطع

القبس

الديوانية- وهْم السَّراب

د. محمد المقاطع


فيصل؛ رجل من أهل الكويت متقدّم بالسن (٨٨ عاماً)، أخذ بيدي، وقال: أنت من المهتمين بمعرفة ما حدث من تغييرات على الأمتين العربية والإسلامية، فما رأيك لو اختصرت لك قصة سبعين عاماً، عاشها جيلي وعشتها معهم، لربما تجد جوابا على سؤالك وعما تبحث عنه؟ قلت له: سأكون ممتنّاً لك لو فعلت ذلك. قال: إذاً، أنصت، واسألني عن أي أمر أذكره لك. قلت: حسناً، وبدأ الحديث بعد أن أخذ نفسا عميقا شعرت فيه بحجم الحشرجة التي صاحبته. قال: حينما كنت شابا بـ«ثانوية الشويخ» في بداية الخمسينات كنّا مجاميع شبابية في الثانوية وغيرها تغمرنا حماسة التحرر للدول العربية وشعارات القومية والوحدة والتقدمية، فقد كنّا نجوب الشوارع للتظاهر تأييداً لأي نداءات من ذلك، ثورة الضباط الأحرار، وخطابات عبدالناصر، وحرب تحرير الجزائر، ووحدة مصر وسوريا وغيرها كثير، كنّا مفعمين بمشاعر الصدق والتفاعل مع القضايا القومية والعربية، لدرجة أننا أوجدنا انفصاما مصطنعا بين الإسلام والقومية، تأثراً بحركة القوميين العرب والموجة السائدة ـــ آنذاك ـــ وامتداداتها بالكويت. وقد عايشنا مرحلة انقلابات وتغيير للأنظمة العربية، وكنا نبتهج لذلك ونتظاهر ونهدر أوقاتا طويلة بالنقاشات والتعبئة لمصلحة هذه التغييرات، على أمل أن يتحقّق حلمنا في الوحدة والقوة ووجود لأمة عربية عزيزة منيعة، وتتوالى الأحداث لنعيش مشاهد وفصولا عديدة من الصدمات المتتالية، قيادات استخدمت القومية والوطنية لتحقيق مآرب شخصية، وربما لأدوار استعمارية مرسومة، شعارات للاستهلاك الإعلامي وواقع يسلّم كل الأمور للدول الاستعمارية، ويهدم دولنا بدلا من بنائها، ويمنح خيرات أوطاننا للمستعمر الأجنبي، بل ذبحت الحريات لدينا على نصب الديموقراطية والمدونات الدستورية، فالواقع أن أصحاب العقول والإمكانات والإبداع لدينا لم تسعهم اوطانهم فهاجروا، خوفا من التهديد أو هربا من التعذيب أو تجنّبا لمصير القتل الأكيد، ومن كنّا نظنهم قيادات قومية ووطنية تبيّن أن أغلبهم بشكل أو آخر أدوات للأجنبي، وصاحبت ذلك هزائم مخزية للجيوش العربية، تشتم من خلالها روائح الخيانة والغدر والتآمر والتخلّي عن المشروع العربي والقومي، فأدركنا وهْم السراب الذي عشناه منذ ١٩٥٠ حتى صحّونا من حلمنا على إكمال الفصل الأخير بزيارة السادات للكيان الصهيوني عام ١٩٧٨، لنستيقظ على حقائق مؤلمة كانت تمر علينا كل يوم ونكذبها لصدق مشاعرنا القومية.

ومن ذلك التاريخ، وبعد قمم عربية عديدة ملهبة بالعبارات والشعارات والبيانات و«اللاآت»، صحونا على الحقيقة المرة، كل تلك المرحلة كانت تدار لنصل لما بلغناه في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، أمة عربية ممزقة ضعيفة متنافرة يكيد بعضها لبعض، نزاعاتها أكثر من توافقاتها، تحكم في معظمها بدكتاتورية مفرطة، وطاقاتها مهدرة، و«الدولة القطرية» هي الغاية لإقصاء «الدولة القومية»، والمثال الواضح في سوريا والعراق ذات الحزب في البلدين، وكلاهما قطرا نقيض للآخر، ونسينا أو تناسينا في خضم ذلك أن ديننا الذي هو مصدر قوة ومنعة لنا، وكونه لا يتناقض مع القومية، وهي التي اعتبرته عدوا رجعيا وأقصتنا عنه وخوفتنا منه، وأنستنا حقيقة أن الله أعز العرب بالإسلام، وأن القرآن جاء بلغة العرب ليكونوا به ومعه أمة ذات حصن منيع.

ومنذ الثمانينات وحتى عام ٢٠١٨ ولحظة حديثي بهذه الشجون، فقد ازددت قناعة وشريحة كبيرة من جيلي بوهم السراب الذي عشناه واندفعنا وراءه، والآن ندرك أن فصول المؤامرة مستمرة لاقتسامنا وابتلاعنا، وأن ضعفنا وتراجعنا المستمر وانشغالنا بأنفسنا وصراعاتنا الفكرية والسياسية الخاوية فتحت شهية الدول الغربية المستعمرة بطبيعتها على أن تتقاسمنا من جديد، فمن التحرر إلى الاستعمار الجديد بالشرق الأوسط الجديد، وهذه المرة بلاعبين جدد على الساحة، مثل إيران التي تملك القرار في أربع عواصم عربية. وها هم جرّعونا الوهم تلو الآخر، فقد أنشأوا لنا كيان الجامعة العربية لوقف أي تقارب أو وحدة إسلامية، وهم من صنعوا النظام في إيران، وأشعلوا الحرب العراقية ــــ الإيرانية لاستنزاف مقدّراتنا وإضعاف قوانا، ثم أوجدوا ثلاثة كيانات للعرب، متصارعة متعارضة، ثم ما لبثوا أن أقحمونا في أفغانستان وأوجدوا العرب الأفغان وأمراء الحرب و«طالبان»، حتى يكونوا مدخلاً لوصمنا بالتطرّف، وتم التنسيق مع إيران الفارسية لتكون شوكة بخاصرة العرب والمسلمين بمدخل طائفي مدروس، وبدأت تتبلور إستراتيجية خلق «القاعدة» والتخويف من التطرّف السني لبدء إجراءات إضعاف هذا المكوّن المرتبط بالإسلام (الخلافة)، ولتشويه ما بقي لنا من الإسلام جاءت أحداث «11 سبتمبر»، التي يثور بشأنها كثير من التساؤلات، وسرعان ما أكملها تكوين «تنظيم الدولة الإسلامية» لتكريس أننا متطرفون وإعطاء صورة ذهنية لدى الغرب بأن وحدة العرب والمسلمين ستقود لـ«الدولة الإسلامية» ونمطها ما تم صنعه على أيديهم «بتنظيم الدولة الإسلامية»، وهو كيان استخباراتي لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.

ثم سألني: أرأيت كيف اختصرت لك الحكاية؟ قلت: نعم. ولكن، هناك من يخالفك. قال: هم وشأنهم، لكلٍّ قناعاته، لكننا ــــ بكل أسف ــــ نشنّع ونسفّه من يخالفنا ونجحد الحقائق والوقائع؛ فأنا قومي للنخاع، ولكن أيضا مسلم، وكم رأيت مع شريحة من جيلي أننا تعصّبنا وكابرنا، وبعد هذا السجل الحافل لتجربتنا، فلا أقل أن نمنح الجيل القادم الحقائق حتى يُبصر المستقبل، ولا يسير بالنمط الخطأ الذي سرنا فيه نحن وجيلنا، وأنظمتنا.

تعليقات

اكتب تعليقك