‫من أنت يا أرذل العمر؟ بقلم الشاعر مازن نجار‬

فن وثقافة

الآن 1989 مشاهدات 1


يبدأ الأمرُ مع أيِّ شخص وهو يقف على حافة عمرٍ قد عاشه بتفاصيله ودقائقه، وكان ممتلئاً -كما أيُّ عمرٍ آخر-بالعديد من الأحداث والذكريات المحزنة أو المفرحة بالعديد من الأشخاص حوله من عائلة وأهلٍ وأصدقاء بالعديد من الآمال التي تحقّقت أو التي لم تتحقق مصرّة على بقائها والعديد من الآمال الجديدة التي تبرز وتريد الولادة قبل إجهاضها ثم يبدأ أمر الزهايمر... خفيّاً بسيطاً ودون سابق إنذار يبدأ بنسيان بعض الأشياء البسيطة كالمواعيد والمهمّات اليومية، فلا يتذكر في المساء ما كان ينوي عملَه في الصباح ثم قد ينتقل إلى الضياع في وسط الطريق فينسى إلى أين كان ذاهباً، أو قد يذكر وجهته لكنه ينسى كيف سيكمل طريقه إليها رغم أنه قد سلكه مئات المرات ثم يتطور لنسيان الأسماء والكلمات فلا تسعفه الذاكرة في تسمية شيء يراه أمامه أو طلب شيء يريده وساعتها يوقن هو بالحقيقة أن عقله بدأ بالتلاشي والتبخر لكن المشكلة أن هذه البداية قد بدأت منذ زمن طويل والمشكلة الأخرى أن يبدأ الآخرون في التفريق بين النسيان الطبيعي والمرضيّ ويبدأ الأمر بين محاولة المصاب بالزهايمر إخفاء المواقف المحرجة التي تبدو عليه، ومحاولة الآخرين لمعرفة حقيقة ما يحدث.

فليس معقولا أن يتم ارتداء الملابس دائماً بالجهة المعاكسة أو ارتداء أردية مضاعفة أو عدم تقدير كمية الطعام التي يتم تناولها
كيف يتم نسيان اسم شخص مقرب منه يراه يومياً، كيف ينسى غرفته وسرير نومه كيف ينسى أن يسمّي الأشياء التي يحتاجها أو الأطعمة التي يريدها.

ثمّ يعلن المرض عن نفسه في هذه المرحلة بين ذهول الآخرين ومحاولتهم تصحيحَ أغلاطه كل مرة بدافع المساعدة والتنشيط، وبين التمزق الداخليّ الذي يعتري المريض وهروبه إلى أعماق ذاته هل يرفض مساعدة الآخرين، هل يطلبها معترفاً بالهزيمة ما هو الأقسى هل هو خسارته لنفسه أم خسارته للصورة التي رسمها الآخرون عنه طول عمره مهاباً جليلاً أم الأقسى أن يعرف الجميع أن هذا المرض لم يُعرف علاجه بعد وجلّ المستطاع هو محاولة تخفيف الأعراض.

وكأنه أصبح ملكاً فقد مملكته كما يقول الكاتب النمساوي ارنو جايجر Arno Geiger في روايته (ملك في منفى العمر) واصفاً حال ذلك الملك وهو يمضي بقية حياته في المنفى القصيّ البعيد فاقداً كل الجاه والسلطان، كسيراً وحيداً تائهاً متغرباً بين حياتين وبين خيارين أحلاهما مر
الخيار الأول أن يتشبث بملكه القديم ويعصر جراحه المخفية تحت الأسمال والخبايا
والخيار الآخر أن يخلعه الآخرون عن ملكه ويتعاملوا معه كما هو بشخصه الضعيف الكسير
ثم يبدأ المرض مساراً مختلفاً مع كل شخص ويتطور بطريقة متباينة.

يصف ارنو جايجر في روايته أيضاً مرض أبيه، وكيف أصبح أبوه يختلق الأعذار كالفأر فهو يصرّ أنه ليس في بيته ويريد الذهاب إليه وكأنه يريد العودة إلى الماضي الكنين، وحين يسألونه عن عنوان بيته يذكره بالتفصيل وحين يشيرون إلى اللافتة الخارجية في الشارع يؤكد أن أحداً ما قد جاء بها وثبتها هنا ليخدعه ويخدعهم
ثم لا يفتأ ينسى ابنه ولا يتعرف عليه، وحين يُرونه صورته يعرفه ويطلبه، لكنه حين يرى ابنه أمامه ينكره ويطلب اللقاء بابنه الحقيقي.
وفي الفلم المحزن ما تزال أليسstill alice حين توقن أليس أن ذاكرتها تتساقط منها كأوراق الخريف تجهز خطة يائسة أخيرة تمثل فجاعة فقد الإيمان عند المصائب، فتجعل لنفسها عادة يومية بأن تقرأ كل صباح ورقةً فيها أسئلة محددة عنها، وحين لا تعرف الجواب عن سؤال ميلادها ترى السطر الأخير الذي يخبرها أنها إن لم تعرف الجواب فعليها أن تذهب لرؤية فيديو محفوظ في حاسوبها لتعرف الجواب.

ويمثل هذا الفيديو رسالة من حياتها السابقة تخبر بها نفسها أنها كانت عالمة لغويات كبيرة وكانت زوجة وأماً رائعة، ثم ّتطلب من نفسها أن تتوجه لتأخذ قارورة من درجٍ كتبت عليها اسمها لتتناول أقراصه دفعة واحدة وتخلد إلى النوم العميق، ولحسن الحظ فقد فشلت المحاولة في الفلم لكن ربما كانت قد نجحت في الحياة الواقعية.

وفي المرحلة المتوسطة يأخذ المرض بنياط المريض ثم يتركه في أحيان أخرى، فتتفاوت ذاكرته ومزاجه بين وقت وآخر في أوقات الصحو وأوقات الغفلة وقد يشرق أحياناً بجملة حقيقة باسقة في ثنايا اليوم تقطر حكمة وتنوراً
وفي تلك المرحلة أيضاً تتحول المرارة إلى نعيم والنعيم إلى مرارة.

فالنعيم الذي كان هو لحظات التعقل والصحو يصبح مرارة لأنه يكشف للمريض مرضه وأمَهَهُ وتهاويه.

والمرارة التي كانت هي لحظات المرض والنسيان تصبح نعيماً ينجيه من فداحة الواقع ووطأة التذكار.

وهكذا تكون المرارة أن لا يعرف ما كان يعرف
ثم يصبح النعيم أن لا يعرف أنه لا يعرف
كالحلم الذي ينمو أثناء النمو لكنه يعرف أنه سيموت بمجرد استيقاظ صاحبه لكن اليقظة هنا هي الكارثة.

ويغدو المريض بين أيدي الآخرين طفلاً لكنه طفل ثقيل لا يتطور ولا تتفتق براعمه، بل يزيد أمره سوءاً كل يوم  وربما يسعد هذا الطفل الكبير بالتعامل مع الأطفال الصغار الذين لا يعرفون صورته السابقة والذين عرفوه في صورته الحالية وأدهشهم أن يروا رجلا هرماً يلاعبهم كما لو كان مثلهم وجميعهم صغيراً وكبيراً لا يريد شيئاً سوى السعادة المؤقتة الآنية الخالية من التفكير بالغد والتفكير بالمستقبل والمصير.

ثم يتطوّر الأمر في مراحله الأخيرة ويتلاشى بريق الضوء فلا يعود المريض قادراً على القيام بمهامه الأساسية كالأكل أو الذهاب للحمام رغم أنه سليم الجسم معافى

ونرى مصداق الآية الكريمة (ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ ‫شَيْئًا‬) الحج.

▪️الحواس الخاصة
أرذل العمر هو حين يعصف بك هذا المرض ويكون أمر الله المقدّر والـمقضي على عبد من عباده لحكمة بالغة قد لا نعرف تفسيرها في الدنيا الفانية، لكنها تنكشف في الحياة الآخرة، فقد يكون المرض سبباً لرفع الدرجات لمن سيصبر على المرض ويحتسب، أو تكفيراً لما اختطّت جوارحه في حياته من الذنوب التي سيكفرها هذا المرض، وقد يكون أيضاً درساً للغير، أو امتحاناً لمن وجبت عليهم العناية بالمريض
وقد يكون بوابة للعودة إلى الله من طريق خاص جداً لا يحسُّ به أحد غير المريض الذي يفقد الحواس الدنيوية لكنه قد يرى بحواس خاصة تعبر حجب السمع والبصر
تلك إحدى تجليات الابتلاء الذي هو سنة من سنن الله الثابتة في هذه الدنيا التي يعقبها دار آخرة فيها القصاص والحساب، ذلك الابتلاء الذي قد لا نحيط به من الوهلة الأولى لكننا نفهمه انطلاقاً من التسليمات الأربعة التي يبنى عليها أي جواب عن تساؤل حول كمال الله والحكمة من أفعاله، هذه التسليمات التي تتلخص في الإيمان بوجود الله أولاً وبكماله في ذاته وأفعاله ثانياً وبالإيمان بما أرسل من رسل وتشريعات ثالثاً وأخيراً الإقرار بمحدودية قدرة وعلم وحكمة المخلوق أمام الخالق.
ذلك أرذل العمر الذي كان يستعيذ منه رسول الله ص (وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر) في البخاري، لكن عبارة أرذل العمر لا تعني طولَه بالضرورة فرسول الله ص يقول (خيركم من طال عمره وحسن عمله) رواه الترمذي-فما أجمل أن تكون في خريف عمرك الطويل قوياً معافى في جسمك وسمعك وبصرك وقلبك المحفوظ والممتلئ بالنور
تلك الحالة النورانية التي أرشدنا إليها رسول الله أن ندعو بها في وقت شديد الخصوصية والدقة وذلك في طريق سيرنا إلى صلاة الفجر كل يوم وسط الظلام فقد اختصّ رسول الله هذا المشهد بدعاء خاص رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم يقول فيه (اللهم اجعل في قلبي وفي لساني نوراً واجعل في سمعي نورا واجعل في بصري نورا واجعل من خلفي نورا ومن أمامي واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا اللهم أعطني نورا)
هذا النور الذي سيحفظ الجوارح والحواس في أرذل العمر من أن يغدو أحدنا فاقداً لكل ما حققه في حياته من أشياء مادية وحنى معنوية وأن يصبح عبئاً ثقيلاً على الآخرين الذين قد يسأمون منا أو يتمنون موتنا.

تعليقات

  1. كالعادة عمل رائع يستحق القراءة وبانتظار المزيد هذا التألق ليس بجديد عليك … أبدعت

اكتب تعليقك