وليد الجاسم: مسرحية بشت: قصة قصيرة *

زاوية الكتاب

كتب وليد الجاسم 1194 مشاهدات 0


مسؤول حكومي كبير، قد يكون وزيراً أو وكيلاً أو رئيس هيئة، يفز واقفاً من كرسيه في «السطرة الأولى» من كراسي الحضور، يستجيب إلى نداء عريف الحفل لاسمه الثلاثي، وفيما يهم بالوقوف يسمع التصفيق من خلفه، الموظفون والمدعوون من الحضور في الكراسي الخلفية متحمسون لسماع كلمته.

يلف بشته ذا «الزري» البراق العريض على ذراعه، يتجه إلى المسرح، يصعد السلالم القليلة التي سترفعه إلى خشبة المسرح بحذر لكي لا يسقط أمام المصفقين، يتجه إلى الميكروفون، يقف منتصباً أمام «البوديوم»... يعدل الميكروفون قليلاً بيده... ثم يتنحنح.

وفيما تنهال عليه فلاشات المصورين الفوتوغرافيين وتتجه نحوه كاميرات التصوير التلفزيوني تنتظر بدء كلمته، يرمق كل شيء أمامه فيترجمه إعجاباً بنفسه، هو فخور جداً اليوم وهو يتذكر كيف خيّب ظن أساتذته الذين لم يكونوا يتوقعون له أي مستقبل باهر، ويتذكر «طنازته» هو على ربعه «الدريسة» وكيف كان يطلق عليهم الألقاب الساخرة... (هذا بو أربع عيون... وهذا بوقلبين... وهذا الزعتر... وذاك الحمص).

ابتسم بعدما تنحنح وهو يرمق من بعيد، ربما في الصف الخامس أو السادس صديقه الشاطر «بو قلبين» الذي كان يحصل على المراكز الأولى، إنه هناك معهم يصفق بحرارة لي.

هم الفشلة ولست أنا... (قال ذلك لنفسه) وهو ينتظر انتهاء الفوتوغرافيين من التقاط الصور له. خاطب نفسه مزهواً كالطاووس المنفوش... أين هم الآن وأين أنا؟... أنا الناجح الكبير، أنا الذكي الرفيع وهم الذين يتوددون لي، يغرقون هاتفي كل نهاية أسبوع بـ «طابت جمعتك»، وكل رمضان بـ«تقبل الله طاعتك» وكل عيد بالتهاني، وأنا بالكاد أجيبهم.

ينتظرون واسطتي لإنجاز معاملاتهم، يأملون «دزة وتوصية» مني لترقيتهم، يهاتفونني لأكلم معارفي لتوظيف أبنائهم... (أنا النجاح والنجاح أنا)!... يقولها لنفسه بفخر شديد قبل أن يسحب نفساً عميقاً يملأ رئتيه بالهواء ويطلق زفيراً طويلاً قبل أن يقول... «الإخوة الحضور»... «الحفل الكريم».

يقول ما قاله، والحضور لم يسمعوا شيئاً يرسخ في أذهانهم، وهو يعلم أنه لم يقل شيئاً حقيقياً، لكنه أنجز المهمة وقال ما قال وهم صفقوا... وانتهينا.

يعود بمشية تشبه مشية «ذكر الحمام» المزهو إلى مقعده الوثير في الصف الأول، وقبل أن يجلس يحيي الحضور رافعاً يده إليهم، يرمق «بو قلبين» بنظرة خاصة، و... «بو قلبين» يزداد حماساً وهو يصفق.

انتهت القصة القصيرة الخيالية، وبقي أن أقول لـ...

أبنائي

إخواني

أحبابي

وكل الشباب المحبط في هذا البلد الجميل...

مثل هذا النموذج ستجدونه كثيراً في حياتكم، فلا يحبطكم عن بناء ذواتكم، ولا يكن مثلاً أعلى لأي منكم، فمثل هذا النموذج يعلم أنه في الحقيقة مجرد «طبل» أجوف، سيحترق يوماً بجهله، ومثله كمثل الكباريت متى احترقت تلقي أخشابها وتوطأ.

ولكن هناك نماذج وطنية كثيرة هي التي شكلت علامات فارقة في أمسنا وحاضرنا وستكون موجودة وعلامة فارقة في مستقبلنا، والتاريخ يعرف الغث من السمين، والممتلئ من الأجوف... هؤلاء إن جلسوا على مقعد المسؤولية زادوه قيمة ولم يزدهم، وإن تركوا المقعد لم يخسروا شيئاً، فقيمتهم من قيمة ذواتهم... املأوا عقولكم بالمعرفة، وسيأتي يوم ما نرى فيه الشخص المناسب في المكان المناسب.

* ملاحظة: «مسرحية بشت» عنوان رواية من وحي الخيال، وعلى أي مسؤول يراها منطبقة عليه أن يعلم أن هذا الانطباق وقع بمحض الصدفة وهو ليس معنياً بروايتنا.

تعليقات

اكتب تعليقك