مركز الخليج للدراسات الاستراتيجي يدعوا جميع الدول والجهات الدوليه والاقيمية للتدخل ومواجهة أزمة منطقة اليورو

الاقتصاد الآن

1039 مشاهدات 0


على ما يبدو أن الاقتصادات المتقدمة ستظل هي محور المشكلات الراهنة؛ حيث لا يمكن، فصل الأزمة المالية الأمريكية بداية والأوروبية لاحقًا والعالمية تباعًا عن دائرة الأزمات الدورية التي يتكرر حدوثها في الاقتصاد الرأسمالي، وهو ما يطرح سؤالاً حول صلابة النظم المالية في العالم وبنيويتها ومدى الفائدة التي جنتها الشعوب من ارتباطاتها المالية والاقتصادية التي أدت إلى انزلاق العالم بأكمله نحو أزمات مالية واقتصادية وأزمات ديون كبرى، خصوصًا بعد أزمة الديون السيادية للولايات المتحدة التي جلبت للعالم وهو لم يتعاف بعد من أزمته الأولى، أزمة مالية جديدة، ومدى قدرة هذه الاقتصادات على امتصاص الأزمات والتصحيح الذاتي.
فقد ترتب على الأزمة المالية العالمية - التي رمت بثقال الولايات المتحدة الأمريكية على أكتاف الاقتصادات الأخرى ـ تحقيق العديد من الدول الصناعية، بصفة خاصة الدول الأوروبية، عجزًا ماليًا غير مسبوق أدى إلى ارتفاع مستويات الديون السيادية ببعض دولها إلى مستويات حرجة، لدرجة أن منطقة اليورو أصبحت بمثابة مبنى يحترق من دون وجود أبواب خروج، وفقًا لما صرح به وزير الخارجية البريطاني «ويليام هيج».
فها نحن نرى ارتفاعًا في مستوى الدين العام لفرنسا بمقدار4,46 مليارات يورو في الربع الثاني من هذا العام ليسجل 1693 مليار يورو أي 2,86% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك وفقًا لإحصاءات معهد الإحصاءات الوطني الفرنسي.
وفي روما أظهر تقرير للمعهد الوطني الإيطالي للإحصاء «إستات» أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ عام 2008 أدت إلى تآكل الادخار وضعف القدرة الشرائية للإيطاليين بعد أن كان الشعب الإيطالي من أكثر الشعوب ادخارا داخل القارة العجوز، وكان يوصف بأنه نمل أوروبا.
والأخطر من ذلك وقوف إحدى دول اليورو (اليونان) على أبواب الإفلاس، لكونها تواجه مشكلتين: دينا كبيرا وتنافسية ضعيفة، والخطورة هنا أنه رغم أن الاقتصاد اليوناني يمثل نحو 2% في أسرة اليورو، فإن الأخطار ليس من تخلّف اليونان عن التسديد فحسب، بل من انتقال العدوى إلى البرتغال واسبانيا، المثقلتين بالديون والبطالة، واحتمال تأثر إيطاليا إن لم تصلح سريعًا ميزان إنفاقها وتنفذ إجراءات تقشفية مرافقة.
فخوفًا من تفشي عدوى الأزمة اليونانية في باقي دول المنطقة، صوتت 11 دولة حتى الآن بالموافقة على خطة إنقاذ اليونان الثانية التي طرحت في يوليو الماضي، وقدرت قيمتها بحوالي 160 مليار يورو تشمل مساهمة الجهات الدائنة الخاصة لليونان وخصوصًا البنوك الأوروبية بالتخلي عن قسم صغير مما يجب أن تسدده الدولة اليونانية.
كما تتضمن عودة الترويكا المؤلفة من الجهات الدائنة (المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) إلى أثينا؛ حيث ستنظر الترويكا بدقة في الجهود الجديدة المبذولة بشأن الميزانية التي أنجزتها الحكومة اليونانية، وتنوي الضغط من أجل إعادة هيكلة قطاع النقل، والعمل على توفير الأموال لليونان، فيما كشف مسؤولون أوروبيون أن ألمانيا وبلدانا متقدمة أخرى تدفع باتجاه تعديل جوهري في الطريقة التي تعالج بها منطقة اليورو أزمة ديونها السيادية، بحيث يتضمن تحمل دائني اليونان من القطاع الخاص خسائر أكبر وتقوية صندوق الإنقاذ الأوروبي، من خلال خطة معقدة تقضي بأخذ قروض من البنك المركزي الأوروبي أو زيادة الأموال المرصودة له حاليًا، والمقدرة بنحو 590 مليار دولار.
أما على الجانب الأمريكي؛ حيث من المعلوم أن الموازنة الفيدرالية الأمريكية، تعرضت لعجز، وهو الأمر الذي عالجته الإدارة الأمريكية بإبرام اتفاق الديون في أغسطس الماضي بين الرئيس «باراك أوباما» والكونجرس الأمريكي، تم توجيه البنتاجون لخفض الإنفاق بأكثر من450 مليار دولار في ميزانية عام .2012
ولكن كثرت تحذيرات وزير الدفاع الأمريكي من خفض ميزانية وزارته، معتبرًا أن هذا الخفض قد يزيد معدل البطالة؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن ميزانية البنتاجون تدعم الاقتصاد الأمريكي بنحو ستة ملايين وظيفة، منها 8,3 في القطاع الخاص و700 ألف وظيفة في وزارة الدفاع، ونحو 5,1 ملايين من المناصب العسكرية النشطة.
وتشير التقديرات إلى أن هذه التخفيضات التي ستبلغ ذروتها في عامي2013 و2014 قد تسفر عن فقد ما بين500 و630 ألف وظيفة، ولاسيما في ظل ارتفع معدل البطالة في معظم الولايات الأمريكية الشهر الماضي لنحو 9,1%، وكان ذلك مؤشرًا على مدى عمق مشكلات الركود التي ضربت البلاد وعلى بطء وتيرة النمو الاقتصادي، وأزمة الوظائف التي بدأت كلها تغير الخريطة الاقتصادية للولايات المتحدة.
فيما أشار مكتب الإحصاء إلى أن عدد الفقراء بالولايات المتحدة ازداد العام الماضي إلى مستوى لم تشهده منذ بدء تسجيل هذه الإحصاءات قبل خمسين عامًا؛ حيث أدت البطالة إلى زيادة الأعباء على الولايات؛ حيث ستدفع 27 ولاية هذا الشهر 1,2 مليار دولار كأرباح على قروض الحكومة الاتحادية التي وصلت إلى 37,5 مليارا، وذهبت كلها للعاطلين.
ولما كانت الاقتصادات الصناعية الكبيرة معًا تشكل ما يربو على 75% من مجمل الاقتصاد العالمي، لم يعد من الممكن لأي بلد في العالم أن يدعي أنه بمنأى عن التأثر بأزماتها، وبالفعل كانت دول الخليج في مقدمة الدول المتأثرة؛ فأسعار النفط وأسعار صرف عملات دول المنطقة المرتبطة معظمها بالدولار، والتجارة مع أوروبا التي تشكل نحو ثلث واردات دول المنطقة، بالإضافة إلى أسواق الأسهم والسندات المحلية التي كغيرها من الأسواق الناشئة، ستتأثر من دون شك بالتطورات الناتجة عن الأزمة الأوروبية.
وبالفعل نجد أن مشكلة الديون السيادية الأوروبية تثير قلقًا كبيرًا لدى منتجي النفط خشية تراجع الطلب على الخام؛ حيث خفضت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في تقرير لها صدر مطلع سبتمبر الماضي، توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط في العامين الجاري والمقبل بمقدار 150 ألف برميل يوميًا مقدرا بتقديرات أغسطس الماضي.
وازدادت الصورة قتامة في أسواق النفط بسبب التباطؤ في الصين، حيث أظهر مسح أن النشاط الصناعي في الصين - ثاني أكبر اقتصاد في العالم- انكمش للشهر الثالث، مما يشير إلى أن الصين ربما تفشل في إحداث توازن لتأثير تباطؤ النمو في الولايات المتحدة وأوروبا.
ويُخشى أن تؤثر الأزمات الأوروبية في مشاريع الشركات الأوروبية التي تعمل في مجالات متنوعة في المنطقة، وفي مقدمتها الطاقة والنفط، وكذلك في تنافسية السلع المصدرة إلى الدول الأوروبية؛ بما يخفض قيمة أرباح الشركات المصدرة، في وقت يؤثر التباطؤ الاقتصادي العالمي سلبًا في حجم الصادرات، وتراجع أسعار أسهم الشركات التي تعتمد على التصدير إلى أوروبا أو غيرها نتيجة توقعات تراجع مبيعاتها وأرباحها التشغيلية.
فيما تعرضت أسواق المال في أنحاء العالم كلها إلى هزات كبيرة أخيرًا، خوفًا من عواقب أزمات أوروبا على أداء الاقتصاد العالمي، بما قد يغرقه في تباطؤ أو ركود جديدين، فتراجعت الأسهم الأوروبية إلى أدنى مستوى إغلاق في 26 شهرًا، وتكبدت أسهم المصارف الأوروبية خسائر جسيمة؛ إذ فقد مؤشرها نحو 33% من قيمته هذا العام بسبب انكشاف معظم هذه المصارف على الديون السيادية الأوروبية، وفي مقدمتها اليونانية والاسبانية والإيطالية.
وأدت التقلبات الشديدة التي تتعرض لها أسواق المنطقة، ارتباطًا بتقلبات أسواق المال العالمية التي تتعرض إلى موجات هبوط وصعود قوية، إلى ارتفاع الأخطار التي تحف بالأسواق الإقليمية، ما أدى إلى انسحاب عدد كبير من المستثمرين، من أفراد وشركات ومؤسسات مالية.
وهنا، يطالب المستثمرون في أسواق المنطقة إدارات المصارف المحلية حاليًا بإعلان مدى انكشافها على الديون السيادية الأوروبية، وتفصيل هذا الانكشاف والقيمة السوقية لهذه الديون، إضافة إلى انكشافها على المصارف الأوروبية لجهة الودائع أو القروض أو السندات أو غيرها من أدوات التمويل أو الاستثمار، في ظل انتشار شائعات عن انكشاف مصارف خليجية على ديون سيادية أوروبية وسحب مصارف أوروبية ودائع من مصارف المنطقة.
ويتابع المستثمرون مدى تأثر فروع المصارف الأوروبية في دول المنطقة، سواء المصارف الفرنسية أو اليونانية أو الإيطالية بما يحدث في بلدانها الأم، علمًا أن هذه المصارف تلعب أدوارًا مهمة في السوق المصرفية الخليجية والعربية.
كما أنه لتراجع اليورو أثر سلبي في دخل العمال العرب في الدول الأوروبية، إضافة إلى تأثيرات سلبية في احتياطيات المصارف المركزية من العملة الأوروبية، وفي أصول الصناديق السيادية، كذلك يؤدي انخفاض اليورو إلى انخفاض قيمة الديون المسعرة باليورو.
وليس غريبًا، أن تؤثر المشكلات التي تواجهها منطقة اليورو في إطلاق العملة الخليجية الموحدة، ولاسيما أن الاتحاد النقدي المدعوم بوجود بنك مركزي أوروبي وعملة موحدة هي اليورو شكل الأساس لنموذج العملة الموحدة بين دول الخليج، بل إن القائمين على الوحدة النقدية الخليجية استفادوا كثيرًا من الدعم الفني الذي قدمه البنك المركزي الأوروبي، ووضعوا موضع التنفيذ برنامجًا محددًا للوصول إلى العملة الموحدة شبيهًا بالذي تم تطبيقه في دول المجموعة الأوروبية التي اختارت اليورو، ولكن بعد أن أصبحت مساعي الوصول إلى العملة الخليجية الموحدة مقصورة على البحرين والكويت وقطر والسعودية، فإن هذه المساعي قد تأثرت كثيرًا بالأزمة في منطقة اليورو.
ومن هنا، فقد أصبح واضحًا الآن أن السياسات الاقتصادية للقوى الكبرى قد تهدد الاستقرار الاجتماعي فيها، وليس من مفر أمام هذه الدول إلا استعادة قدرتها على صنع قراراتها بنفسها، وبالفعل هذا ما حدث؛ حيث كان من أبرز الجوانب الإيجابية لأزمات الاقتصادات الكبرى، أنها آذنت بانتقال الرأسمالية العالمية نحو الشرق والجنوب، ولهذا تفرض أوضاع الاقتصاد العالمي على البلدان الخليجية والعربية عامة، أن تواجه المعضلات الهيكلية في اقتصاداتها، وأن تكف عن الاعتماد على إيرادات سيادية تؤدي إلى انكشافها على الخارج، خصوصًا ما يحدث في البلدان الصناعية الرئيسية.
ومن ثم، فإن ضرورة توجيه الاستثمارات الخليجية إلى دول عربية - في ضوء تداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية، واعتبارات ما يمكن أن ينتج من تكامل اقتصادي - تحتاج إلى إعطاء أولوية خاصة إلى قطاعات الإنتاج السلعي والصناعات التحويلية والزراعة، خاصة أن غالبية واردات بلدان الخليج العربي هي من السلع الصناعية والمواد الغذائية، مع التركيز في هذه القطاعات على ما هو أكثف في تشغيل العمالة، وما يلبي الحاجات الاستيرادية لبلدان الخليج العربي، وهو ما سيعمل على تخفيف آثار الأزمات على دول المنطقة، من خلال دور عوائد الخصخصة في تقليل تراكم الديون الخارجية للدول العربية الفقيرة وتخفيف عجز موازناتها، ومن ناحية أخرى سوف تجد أموال دول الخليج مكانًا ناشئًا أكثر أمنًا لاستثماراتها مقارنة بالدول الغربية، التي تتركز بها أكثر من 1,4 تريليون دولار من الثروات الخليجية.
من جانب آخر، هناك دروس يمكن أن تعيها دول الخليج من الأزمة الأوروبية؛ حيث إن رغبة أي دولة في الانضمام إلى تكتل اقتصادي يسعى إلى عملة موحدة يتطلب من هذه الدول أن تدرك حقيقة المطلوب منها من مؤشرات للأداء الاقتصادي، وألا تلجأ لتجميل (أو تلفيق) هذه المؤشرات من أجل الانضمام إلى هذه الوحدة النقدية، وذلك لأن التجربة أثبتت أن مؤشرات الاقتصاد الحقيقي لابد أن تنكشف عاجلاً أو آجلاً، بل يجب أن تعي أن أي تكتل اقتصادي ضروري أن يمر بأزمة اقتصادية نتيجة مشكلات مالية أو نقدية في اقتصاد أحد الأعضاء فهذا أمر وارد.. ولكن هذا يتطلب من التكتل أن يكون ضمن الإطار المؤسسي صندوقًا مختصًا بالتدخل لإنقاذ اقتصاد أي عضو يتعرض لأزمة مالية وإعادة الاستقرار المالي للتكتل وللعملة الموحدة وعدم ترك قرار التدخل من عدمه في يد الدول الأعضاء، ولمنع الاختلافات بين الدول الأعضاء في هذا الشأن. كما لابد من التركيز على أهمية معالجة تكييف السياسات المالية في هذه البلدان بما يحقق الالتزام بالشروط المعتمدة. لذلك، فإن سياسات الحد من التوسع في الإنفاق العام لابد أن تكون محورية وملزمة حتى لا تتفاقم مستويات الدين العام كما حدث في أوروبا وتنخفض نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي. وربما تؤدي هذه المسألة إلى التوافق على توحيد سياسات الإنفاق في هذه البلدان، بحيث تصبح السياسات المالية موحدة مثل السياسات النقدية المعتمدة من المصرف المركزي الخليجي.
وأخيرًا، لا يمكن إلا أن ندعو جميع دول العالم إلى أن تتكاتف لإخراج منطقة اليورو من أزمتها، وعدم اتباع منطق عدم مساعدة العضو الذي يسيء الإدارة الاقتصادية، وذلك لأن التعامل مع المشكلة من هذا المنطلق يعني انتشار العدوى إلى اقتصادات بقية الدول الأعضاء بسبب ترابط المصالح، أي انه ربما يعني الفوضى العامة، وهنا تفضل مسارعة الجميع إلى احتواء الأزمة قبل خروجها عن السيطرة، وتدخل جهات خارجية كصندوق النقد الدولي، الذي يعني تدخله في إدارة الشؤون الاقتصادية لهذا التكتل تراجع سيادة واستقلالية التكتل في إدارة سياساته المالية والنقدية. ويتعين هنا الوضع في الاعتبار أنه يجب ألا تقتصر المعالجات فقط على الديون السيادية في بلدان اليورو أو سقف الدين العام في الولايات المتحدة، رغم أهميتها وضرورة التصدي لها، ولكن يتعين أيضًا علاج مشكلات الفقر والتخلف الاقتصادي في البلدان الناشئة وضرورة تعزيز النشاط الاقتصادي فيها بما يمكّنها من المساهمة في العمل الاقتصادي وتعزيز التجارة الدولية وتوفيق أنظــمتها القانونية والإدارية بما يتواءم مع متطلبات الاستثمار، ولاسيما أنه ليس هناك أشد من أزمة البطالة التي تتسع رقعتها في مختلف البلدان، كذلك أصبحت الكثير من الصناعات والنشاطات غير مجدية اقتصاديًا في بلدان عدة بعدما فقدت هذه البلدان ميزاتها النسبية في هذه النشاطات، لكن هذه الأزمات والمعضلات البنيوية في مختلف الاقتصادات قد تؤدي إلى إعادة تشكيل للمشهد الاقتصادي العالمي في ظل وجود عناصر أساسية تعمل على حماية الأنظمة المالية، بما قد يسمح بإعادة تدفق التمويلات الهادفة إلى تعزيز النشاط الاقتصادي.

صحيفة أخبار الخليج

تعليقات

اكتب تعليقك