التجار يشترون أعضاء البرلمانات!!

الاقتصاد الآن

أحد أسباب الأزمة المالية العالمية، وذلك لشل الرقابة ضد الاحتكار برأي د.خليل حسن

1756 مشاهدات 0

صورة من الانترنت

بعد أن انهار النظام الشيوعي السوفيتي، وتحول العالم لقرية تكنولوجية صغيرة، انبهرت الشعوب بالرأسمالية، ووجدت فيها خلاصها من الفقر والجهل والمرض، وقد أدت عولمة السوق لتحول دول فقيرة لمصانع رخيصة للعالم، ليتخلص الملايين من جوعهم. وبينما كانت شعوب العالم مشغولة في تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، كانت القلة منهمكة في التلاعب لتكديس المليارات، بشراء نواب البرلمانات لتغيير القوانين وشل الرقابة ضد الاستغلال والاحتكار، وبالمضاربة في أسواق الأسهم، والعقار، والطاقة، والأغذية، والعملات. كما أبدع بعض المصرفيون في صنع منتجات قروض سحرية وبيعها في الأسواق العالمية، لتؤدي لأزمة اقتصادية دولية في عام 2008، وفقد الثقة بالنظام المصرفي العالمي. وقد استمرت معاناة شعوب العالم عولمة الرأسمالية الفائقة، التي استطاعت مؤسساتها التشريعية إنقاذ البنوك من الإفلاس، بتحولها فجأة إلى اشتراكية دفعت مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب، ولكن لم تعمل بجد لخفض نسب البطالة، والفقر، والمرض، بين فئات الشعب المتضررة.
لقد برزت أعراض مبكرة لخلل النظام المالي العالمي، وعدم قدرة قوانينه ومؤسساته على التعامل مع تحديات العولمة، فرفع رجال الاقتصاد اعلام الخطر، ليحذروا من قرب الهاوية، ولكن انشغل الجميع في جني الأموال، حتى رجال برلمانات الغرب، تناسوا الدمار المنتظر. وقد عرضت مجلة النيوزويك الأمريكية في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر الجاري، السلوكات الأخلاقية لمشرعي الأنظمة والقوانين التي تحمي شعوبها من مضاربات السوق الحرة، في مقال بعنوان كونجرس الثراء. فقد قام الباحث، بيتر شويزر، من جامعة ستانفورد الأمريكية بدراسة التصرفات الاستثمارية لنواب الكونجرس الأمريكي منذ عام 2000، كما حدد أبحاثه حول التعاملات المالية المرتبطة بالتشريعات التي يناقشها الكونجرس في جلساته، فوجد الكثير من البرلمانيين يقومون بتعاملات تعتبر غير قانونية للمواطن الأمريكي العادي، فقلص دراسته في مجموعة محددة من قيادات نواب الكونجرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ففي عام 2003 حينما كان الكونجرس يناقش تشريعا للرعاية الصحية لتغطية كلفة الدواء لكبار السن والأطفال، الذي سيوفر لبعض شركات الدواء فرصا ذهبية، كان رئيس اللجنة الفرعية للدواء في الكونجرس، والمنبثقة من اللجنة المالية الرئيسية، منشغلا في الاستثمار في أسهم شركات الأدوية، وقد حقق أرباحا تتراوح بين نصف مليون ومليوني دولار، حينما وافق الكونجرس على هذا القرار، فارتفعت سعر أسهم بعض شركات الأدوية، كما أدت لرفع كلفة الرعاية الصحية الأمريكية بشكل غير مسبوق.
وكان رئيس الأقلية في الكونجرس يستثمر الآلاف من الدولارات في أسهم شركات التأمين الصحي، خلال مناقشة الكونجرس لإصلاح الرعاية الصحية، وقد حقق أموالا طائلة حينما حقق حزبه الفوز بمنع مرور تشريعات الإصلاحات بشركات التأمين الصحي، كما حقق أحد أعضاء البارزين في اللجنة المالية للكونجرس، أموالا طائلة من التعامل في سوق الأسهم في الوقت الذي كان الكونجرس يناقش كيفية إنقاذ البنوك المعرضة للإفلاس في عام .2008 وقد علقت المجلة على ذلك بالقول: «لقد صدم الباحث، بيتر شويزر بحقيقة أن نواب الكونجرس يستطيعون التعامل بحرية في شراء وبيع الأسهم بشركات تحدد مصيرها بشكل مباشر تشريعات الكونجرس، وتساءل: هل يعتبر ذلك تجاوز قوانين التعاملات الداخلية للشركات في التعامل بسوق الأسهم؟ وقد أكدت أبحاثه مخالفة هذه التجاوزات الأنظمة والقوانين الأمريكية للشركات، بل تؤدي للدخول المواطن العادي السجن».
وقد انتقد علماء الاجتماع تحول الإنسان إلى «روبوت» مادي فقد إنسانيته وقيمه الأخلاقية، وحينما هز هذا الخلل في عام 2008 الاقتصاد العالمي، وضيع ما يزيد على ثلاثين تريليون دولار، راجع العلماء مؤلفاتهم، وحاولوا أن يوجهوا رجال السياسة لرشدهم، ولم يفد ذلك. ولم تمض ثلاث سنوات حتى سمعنا عن انتفاضة العولمة، واضطرابات الشوارع في نيويورك، ولندن، وباريس، واليونان، وايطاليا، واسبانيا، ولتزداد ديون أوروبا، ولتقترب من انهيار اليورو، وليبدأ تجار الوول ستريت القلق على تكدس أموالهم. ويبقى السؤال: كيف استطاع رجال المال والأعمال تغيير قوانين الرأسمالية لكي نقترب من الانهيار والوصول إلى الهاوية؟ وما الذي حصل لبرلمانات التشريعات ورجالها؟ هل تحولوا من خدام الشعب الذي أنتخبهم، إلى خدام الشركات التي تغطي كلفة دعايتهم الانتخابية؟ وهل ترافق كل ذلك بربحية الطرفين وخسارة شعوب الديمقراطية؟ وهل هناك فرصة لمنع هذا الانهيار، بإرجاع مفاهيم اقتصاد العولمة الرأسمالي الأخلاقي؟
ليسمح لي القارئ العزيز بأن أقدم شخصية غربية نادرة، هو هانز كونج، الذي ولد في عام 1928، من عائلة سويسرية كاثوليكية، تدعو إلى الإصلاح الديني. وقد درس في الجامعات الألمانية والايطالية، وأكمل دراسته في علوم اللاهوت بجامعة السربون، وعين في عام 1960 أستاذا بجامعة توبيجن الألمانية، كما عينه البابا عضوا بمجلس الفاتيكان، وفي عام 1979 أدت آراؤه الإصلاحية لغضب الفاتيكان، ومنعه من تدريس الكاثوليكية، ليتفرغ لعمله كبروفيسور بجامعة توبيجن الألمانية لعلم اللاهوت. وقد كتب مؤلفات عديدة عن الأخلاقيات والدين، ويدعو في كتابه: مسئولية العولمة، قيادات أديان العالم للعمل على بناء سلام عالمي، يعكس الأخلاقيات التي تجمعها الديانات برباط القيم، والمعايير، والسلوك. ويعتقد كونج أن السلام العالمي يلزمه سلام بين الأديان، ولتحقيق ذلك هناك حاجة للحوار، لمعرفة الأسس الأخلاقية لهذه الأديان. وقد شرح أفكاره في مسودة إعلان أخلاقيات العولمة، لبرلمان أديان العالم، الذي عقد بمدينة شيكاغو في عام .1993
وقد اتفق ممثلو جميع الأديان في هذا المؤتمر، على المبادئ العامة لأخلاقيات العولمة، التي تشمل الالتزام بثقافة رفض العنف، واحترام الحياة البشرية، والمطالبة بنظام اقتصادي عادل، ونشر ثقافة الصدق والتضامن والمساواة، وتحمل الاختلاف، والشراكة بين المرأة والرجل. ويعتقد الكاتب أن رضا القيم خير لراحة النفس من متعة الماديات، ويملأ الالتزام بالأخلاقيات الروح بالبهجة والسعادة، ويوصي بالتخلص من الأنانية الشخصية والجشع، ويؤكد الحاجة لمعايير أخلاقية، للعيش في سلام، وعدالة، وحرية. ويعتقد الكاتب أن أسباب العنف والإحباط اللذين يعيشهما البعض في العالم الإسلامي، هي نتيجة السياسات الغربية اللاأخلاقية خلال القرون الماضية، ويوصي الغرب بالاعتراف بمسؤولياته، والعمل على إصلاحها. ويختلف الكاتب مع صمويل هانتنجتون في نظريته عن صراع الحضارات، بل يعتقد بأن الثقافات والحضارات لا تحارب بعضها بعضا، بل العكس تتداخل ببعضها بعضا في كثير من العموميات، ليستطيع البشر العيش معا في سلام. ويحذر كونج من السياسات الخاطئة الناتجة عن التصورات غير الحقيقية عن الإسلام، التي قد تؤدي لتفكير سياسي منغلق، قد يؤدي لصراع بين الأديان والثقافات.
وربط هانز كونج العنف في الشارع الإسلامي بالإحباط الذي يعانيه المسلمون، بسبب الغضب من معاناة حروب أفغانستان والعراق والشيشان، وفشل تأسيس الدولة الفلسطينية، وتأييد الغرب للسياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، كما يوصي بدبلوماسية غربية متزنة. ويرفض كونج فرض الديمقراطية والحداثة على المجتمعات الإسلامية، ويعتقد أن التطور الأوروبي كان نتيجة عملية لمخاض طويل وشاق، ويجب أن يبدأ التغير من داخل المجتمع لا أن يفرض من الخارج. وأوصى بحرية صحافة مسئولة وبعيدة عن الإثارة، التي أكدها مجلس الرؤساء والحكومات في الإعلان العالمي لمسئولية الإنسان مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد انتقد رجال الإعلام المادة الرابعة عشرة من هذا الإعلان المتعلقة «بحرية التعبير للإعلام لإيصال الحقائق إلى المواطنين وانتقاد تصرفات وقرار المؤسسات المجتمعية والحكومات، التي هي مهمة للمجتمعات الديمقراطية، ولكن يجب ان تستخدم آلياتها بمسئولية واحترام».
وقد تنبأ الكاتب في عام 1997 بأزمة الوول ستريت، بسبب الممارسات غير الأخلاقية في سوق المال، وقد وصى في مقاله في صحيفة يابان تايمز، بضرورة ترافق جهود التعامل مع الأزمة الاقتصادية، بخطة تجمع تدخل الدولة المسئول، مع خفض العبء المالي على المواطن، بالإضافة إلى الادخار في الميزانية العامة، لمنع زيادة الديون غير المتوقعة على الدولة. ويعتقد الكاتب أن الحالة الذهنية التي أدت لتفاقم الأزمة المالية قد بدأت تتغير، فقال: «يبدو أنه في الدول الغنية الصناعية، وبعد فترة من قصر النظر لسلوك الربحية المتصاعدة، بتنا امام فجر جديد من البساطة والاستدامة. وتعاني الشركات ضغوطا متصاعدة لتكون أخلاقية، وأخيرا عوقب السلوك التجاري اللااخلاقي». وقد لاحظ الكاتب في رحلة للولايات المتحدة ظاهرتين لافتتين للنظر، هما: «الرغبة الجامحة للربحية التجارية اللامسئولة، وجنون العظمة السياسي». وقد ارتفعت الأصوات المنادية لأنظمة أخلاقية للسيطرة على جشع السوق الحرة مع زيادة الأزمة، كما طالبت بدعم البنية المالية الجديدة بهيكل أخلاقي، وترويض الغريزة الإنسانية القاتلة من الجشع والكبر بمعايير أخلاقية.
ويناقش الكاتب هذا الهيكل الأخلاقي الذي طرح في فقرة إعلان أخلاقيات العولمة لبرلمان أديان العالم في شيكاغو لعام 1993، بقوله: «لقد وجدنا الإجابة في التعاليم التقليدية الدينية: يجب الا نسرق، وبمعنى ايجابي: يجب أن تكون معاملاتنا صادقة وعادلة، ولا يحق لأحد منا أن يستغل أمواله وأملاكه من دون النظر لحاجة المجتمع والبيئة. وعلينا أن نزرع الرحمة في أرواحنا لمعاناة الآخرين، بل علينا زرع الاحترام المتبادل، لكي نؤسس توازنا في المصالح، بدل الركض وراء قوة لا محدودة، ترافقها صراعات منافسة يستحيل تجنبها، فنفقد إنسانيتنا بالجشع، وذلك بفقد روحنا، وحريتنا، وهدوئنا، وسلامنا الداخلي».
ويعلق الكاتب آماله على باراك اوباما الذي وصل إلى الرئاسة مطالبا بأخلاقيات غير عادية للسياسيين، ويعتقد أنه لن يستطيع اجتراح المعجزات، ولكنه في الموقع الذي يمكنه أن يحدد الهيكل الأخلاقي لبناء الاقتصاد العالمي، بعد فهمه أزمته الأخلاقية التي تحدد بالسؤال: «هل نحدد القيمة في الثروة فقط، أم أيضا في العمل الذي أوجدها؟ وكل ذلك يؤكد أننا في حاجة لأخلاقيات عالمية اليوم أكثر من أي وقت مضى».
فتلاحظ عزيزي القارئ أن الكاتب قد ناقش أهمية الموارد البشرية في تكوين ثراء الأمم، وأهمية توفير بيئة اقتصادية عالمية تحترم الإنسان، وتحميه من براثن الفقر والمرض، بتوفير شبكة الحماية الاجتماعية له، ليحافظ على كرامته وصحته وإنتاجيته، وذلك بتوفير تأمين اجتماعي لرعاية صحية شاملة، وتعليم وتدريب مستمرين، وحماية للبطالة وفترة التقاعد. وهذه الشبكة الاجتماعية تحمي كرامة الإنسان وتمنعه من العنف والجريمة والثورة، التي تكلف معالجتها معاناة مجتمعية كبيرة وأموالا طائلة. والسؤال: هل ستراجع مجتمعاتنا العربية سلوكاتها الاقتصادية لتبني مجتمعا يحترم إنتاجية الإنسان وإبداعه، ويحميه من جشع الغنى، وبؤس الفقر، وعنفه؟

صحيفة أخبار الخليج

تعليقات

اكتب تعليقك