أوجَعتَنا برحيلك يا عبدالعزيز ....يكتب د. أحمد عبدالملك

زاوية الكتاب

كتب 440 مشاهدات 0


اختطفتك يدُ الموت يا عبد العزيز ونحن بعد لم نرتوِ من صفائك ونقائك ونظرتك الموغلة في عُمق حال العرب والمسلمين، ولم تشبع العصافير والزوايا من ألحانك الشجية التي تُضفي على الأشياء الجامدة قبساً من حياة.

مررتَ سريعاً يا عبد العزيز بعد أن نثرتَ عبق ألحانك في زوايانا المأتمية، وعروقنا التي عانت وطأة المواقف، وبعد أن أوقدتَ شموعَك على طريق عذاباتنا مع حبيباتنا وأمهاتنا وأحيائنا البريئة من الجسرة وحتى فويرط.

مررتَ يا عبد العزيز نسمةً رقيقة على هامات (الرجال الأولين)، وبلسماً شافياً لكل الذين في (يوفهم عطش)، وتأسيتَ للورود (التي ذبلت في قلبها)، بينما كانت (سما قلبك تشتي)!

أَسرتَنا يا عبد العزيز من الشهقة الأولى (عيشي يا قطر.. يا قطر عيشي)، وزرعتَ أقماراً في فلوات الصمت والحيرة، مروراً بتلك اللهفة التي تسربل بها وجدانُك في الغربة (جيتك.. جيتك يا قطر.. جيت من عقب غربة وسفر.. جيتك وشفتك عروس حلوة في حضن القمر)، وأنت الذي لم تعرف العروس ولا دفء الأحضان!! كم كنت مؤثراً يا عبد العزيز؟.

كنا نتساءل في غيابك، بعد رحلة امتدت من عام 1967 وحتى عودتك من الدراسة في القاهرة: متى سوف يتزوج عبد العزيز؟، فكلنا تزوجنا وأنجبنا. وعندما نلقاك بالأسئلة تبتسم.. تمسك المصحف بيد والعود باليد الأخرى، وترحل في سماواتك المجهولة.

داعبَ عودُك قدسَنا السليبة (أحبك يا قدس لا تسأليني لماذا وكيف أحب؟) ولكأن حبك من نوع نادر لم تعرفه قلوب البشر؟. كافح عودُك ونبضك ضد القمع والجبروت.. فكانت (قمع ستان) حاضرة بكل تفاصيلها المخيفة وحرابها وانكشاريتها. رحلتَ مع المدارات المخيفة على (سفينة الأحزان)، وأنت لا تعرف السباحة في بحر يخنق الإنسان! تجاورت عيناك بيروتَ لحظةَ مأتم، فكانت آهة (آه.. يا بيروت.. سامحينا إن جعلناك وقوداً وحطب)!

حفظت يا عبدالعزيز تراثنا الساكن في قلوب الأولين، وشاركت صبيان الحارات البريئة في (الكرنعكوه والعايدوه)، في مشهد طفولي يؤسس لعلاقة الإنسان بالأرض. مسحَت أناملك الرقيقة جباهَ كل البحارة القطريين عندما رسمت (أم الحنايا)، وتأملت شقوقَ غضب حبل الغوص في أيادي البحارة، (يا نوخذاهم خفف عليهم. ترى البحر غصبن عليهم...ترى حبال الغوص قطَّع أياديهم)، وكنت مع البحارة ضد غضب البحر وغضب النوخذا!.

حفظت لنا (حنا جيناكم.. يا عمير العميري)، وصورت لنا البنت المخطوبة مُردداً لسانَ حال طالبيها: (بنتكم نبيها.. والغالي نعطيها..) وأدخلت ثنايا التراث في ذاك اللحن الجميل. تراث قد لا تحفظه الكتب ولا المقالات، لكنه استوطن آذاننا وحفر اسمه في التاريخ.

كنت لصيقاً للعشاق، وأصحاب الرسائل الموشاة بالورود والقلوب المجروحة! فكانت (للحين للحين.. حبك في قلبي ما محته السنين)، وصورت مرارة الفقد الأكبر في (صرتي نصيب غيري وللحين هواي الأول)، كان العطش يلازمك في رحلة تأسيس فرقة الأضواء وخلال دراستك في القاهرة، رغم الظروف التي أحاطت بتلك الدارسة؟. فكانت (بيوفي عطش) وظل هذا العطش معك حتى يوم لقاء الوداع في (أبوهامور)! رحلتَ ولم تستطع المعاجم تفسير كل ذاك العطش وأنت أيضاً لم ترسم لونه. غادرتنا وتركتنا مع حيرتنا كيف نُفسّرك؟ وكيف نُترجم عطشَك الذي تجاوز غضبَ الصحارى وملوحةَ البحر.

لم يكن لديك وسيلة سوى أن (تصدّر للورق همّك)، وأيضاً نحن لم نستوعب نحن مساحة ذاك الهَم، ولا وطأته عليك، كونك آثرك الصمت حتى في جلساتنا!؟ لما صمتَ يا عبد العزيز عن البوح وأنت أكثر الناس إعلاناً عن مشاريع الحب والتسامح والعدالة بين البشر!. كانت عيناك تفضحك أحياناً وتُخبرنا باتجاهات ذاك الهَم، ولكننا نعجز عن تفسير لغة عينيك. فرحل التفسير معك إلى قبرك!

ومع كل حالات الفقد التي وضعتها في سلة أحزانك، كانت (عندي أمل.. طال الزمان وإلا قصر..عندي أمل.. بيجي يوم وبنلتقي).. ولعسف الأيام وكِبرِ المعاناة لم يحصل ذاك اللقاء المستحيل!؟ تبدد الأمل رغم أنك تجاهر لسنين (واقف على بابكم ولهان ومسيّر)، لم يستجب أهل الدار للوله، ولا (للوقوف على البيبان..من حرتين في الحشا من كثرة الأشجان)!

وفي مساءات القاهرة عام 1975 كنتَ تغازلُ الغروب وتتأمل (المغربية) العائمة على نهر النيل، سؤال العين المسكونة بالتوق (اسئلت عينك.. ادمعت عيني وتشاكينا)! كنت تحمل شكوى العشاق والمنكوبين بداء الفراق، وتردِّد بداخلك (لي يطرى عليك الأول.. وتطرا لي سوالفكم)، كنت تحملنا معك يا عبد العزيز، تماما كما كنت تحمل الوطن أينما حللت.

اقتسمنا معك الأمل يا عبد العزيز، كما اقتسمنا حرَّ الصيف في مقر فرقة الأضواء والمكيف المقهور، أو في المطعم المقابل لمطار الدوحة القديم، أو في استديوهات إذاعة قطر.

واليوم يا عبد العزيز ضاع من يدنا الأمل لأنك رحلت قبل الوقت، وتيبَّست أناملُك قبل الوقت، وخيَّم علينا (الصَبا) قبل الوقت. آه يا عبد العزيز كم كنت حنوناً.. شغوفاً.. رقيقاً.. حكيماً.. مبدعاً وأنت تقود الفنانين في وقفة حازمة وعالمة. كم كنت مبدعاً في زمان يقطعون فيه وريد الأشجار كما يقطعون وريد الأطفال (قصوك يا السدرة يللي في وسط البيت.. قصوك وعروجك للحين في قلبي.. ترويج عروقي وعروق من حبيت)، صمت قلبك يا عبد العزيز، ماتت السدرة، وزادت وحشة الكون ومساحات العذابات وبعُدت الشقة بين ألحانك وكلمات الكون.

ماتت السدرة وهجم الهجيرُ على الأطفال الذين يلتقون تحتها ويجمعون (الكنار)، تناثر الأطفال في الشوارع تتخطفهم آلاتُ الموت (السيارات) وضاعت البراءة التي تسكن وجوههم.. ومات (الكنار) في التراب.

وطناً كنتَ يا عبد العزيز.. مدرسة.. شوقاً.. رقة! كلماتٍ كُنتَ جافت الأبجدية، لحناً لم يُشفَ من آهات القلوب الممزقة وأصحاب الحِيل الضعيفة.

كما أحببناكَ يا عبد العزيز وكم سنُحبك رغم أنك أوجعتَنا برحيلك! سنُحبك لأنك أحببتَ الجميع، وأوصلتَ نبض الوطن والعشق إلى آذاننا بكل محبة وصدق. وكأن ذلك قدر (يا قطر يا قدر مكتوب.. في كل خطوة يتابعنا.. لا أحد يا قطر يقدر.. عن ترابك يفرقنا) والذي يتأمل هذا اللحن، يشعر بأنه يصلح نشيداً آخر للوطن.

وها أنت قد عُدت لترابها محمولاً على الأعناق نحو أبدية لا يعلم مداها إلا الله! نعم إنه قدرٌ مكتوب، وإنها قمة التحدي! فأن تكون فوق التراب ولا تكون، كأنك تحت التراب!؟ قدرية.. وفلسفة أدركتها يا عبد العزيز منذ زمن طويل.

التحق بوالديك يا عبد العزيز.. وظَللهُما بحنانك اللامحدود، فإيمانك وسجادتك وعلمك ونقاؤك الذي لم تعرفه وسائل الإعلام، سوف يُعينك على تحقيق ما لم نستطع تحقيقه في عالم يُسمُونه الدنيا التي تظل صغيرة مهما عشنا أيامها الطوال (إصغيرة هالدنية.. هالدنية إصغيرة.. ما جنه كنا إصغار)، كبرنا يا عبد العزيز، وكبرت معنا همومنا، واستَشرست من حولنا الزهور والقناديل والنوارس، وما زال سؤال مساءات القيظ في الدوحة يحتل أعيننا؟

 

الآن - الشرق القطرية

تعليقات

اكتب تعليقك