حقائق أزلية تحترق في نار الأزمة المالية.. بقلم مارتن وولف

الاقتصاد الآن

1094 مشاهدات 0


ما هو مستقبل البنوك المركزية؟ ستكون مشغولة؛ لأن المتوقع منها الآن أن تكفل الاستقرار النقدي والمالي معًا. وسيكون مستقبلها مثيرًا للجدل؛ لأن القرارات التي تتخذها سيكون لها أثر هائل في توزيع الدخل وقدرة الناس على الحصول على التمويل، وكذلك على الطريقة التي يعمل بها النظام المالي، وحتى ملاءة الحكومات.

قبل الأزمة، كان يُعتقَد أن صعود التمويل الحديث المتطور سيجعل من الممكن الاستغناء عن دور البنوك المركزية حارسًا على الاستقرار المالي. ويعتقد الناس منذ أمد طويل أن دور البنوك المركزية مصدر تمويل للحكومات لم تكن نتيجته إلا حدوث التضخم. وبالتالي أصبحت البنوك المركزية بمثابة الكهنة في السياسة النقدية الهادفة إلى تحقيق تضخم منخفض ومستقر.

هذا الماضي أصبح غريبًا الآن. فالبنوك المركزية لم تتخل عن استقرار الأسعار، رغم أن بعض علماء الاقتصاد نطقوا ببعض أفكار الزندقة التي مفادها بأن هناك حاجة إلى تضخم أعلى. ومع ذلك تحول دور البنوك المركزية من الناحيتين العملية والنظرية. والتحول العملي نتاج مباشر للأزمة. فقد وجدت البنوك المركزية نفسها مكرهة على الدخول في عمليات تسهيل كمي غير مسبوقة في التاريخ، ليس فقط من خلال أسعار الفائدة المنخفضة بصورة متطرفة، وإنما كذلك من عمليات التوسع الهائلة في ميزانياتها العمومية. ومن بين البنوك المركزية الكبيرة، كان الاحتياطي الفيدرالي أبرعها من حيث الابتكار، ويعود ذلك جزئيا إلى دور المؤسسات غير البنكية، وجزئيا أيضا إلى عدم قدرة السلطات المالية العامة على التصرف. كذلك البنك المركزي الأوروبي يتصرف بطريقة مبتكرة ومفاجئة.

ومن المعتقد أن عمليات التوسع الهائلة في الميزانية العمومية للبنوك المركزية هي بادرة من بوادر التضخم المفرط. ويشعر الذين يعيشون على الدخل المتحصل من مدخراتهم بغضب شديد بسبب أسعار الفائدة المنخفضة. والحقيقة القائلة إن المصرفيين المركزيين أنقذوا العالم من الوقوع في ركود اقتصادي عظيم للمرة الثانية هي حقيقة يتم تجاهلها. فما من أحد يحصل على الثناء؛ لأنه حال دون وقوع حدث افتراضي. ولعل مما يبعث على المفاجأة أن البنوك المركزية لم تتعرض حتى لمزيد من فقدان الثقة والخزي.

أما التحول النظري فهو نتيجة غير مباشرة للأزمة. وقائمة الافتراضات التي اتضح أنها خاطئة طويلة، منها أن النظام المالي من شأنه أن يحقق الاستقرار الذاتي، ومنها أن مديري البنوك سيُظهِرون الكفاءة، وأن الابتكار المالي من شأنه تحسين إدارة المخاطر، وأن التضخم المنخفض والمستقر من شأنه ضمان الاستقرار الاقتصادي. لكننا الآن نشهد احتراق الحقائق الأزلية الخالدة.

باختصار، تقوم البنوك بأمور تفوق الحد من خلال رأسمال سياسي أقل. وللإنصاف أقول إن التلوث بالفشل لم يكن من نصيب جميع البنوك المركزية. فالبنكان المركزيان الكندي والسويدي، وهذان مثلان من بين البلدان ذات الدخل العالي، يستطيعان رفع رأسيهما عاليًا. لكن بعض السبب في ذلك يعود إلى الحظ، فقد عانى هذان البلدان أزمات في التسعينيات. وكما سبق أن حذر هايمن مينسكي، فإن التهاون والرضا عن الذات يؤدي إلى الإفراط والأزمات. لذلك نسأل: ما الذي ينبغي عمله؟ المهمة المباشرة هي إدارة عملية الخروج من إجراءات التدخل التي يبالغ المنتقدون في الحديث عن صعوبتها. فالمخاوف من حدوث تضخم فائق وشيك هي علامة على الحمق. وكما شرح بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في كلمة مهمة ألقاها في 13 نيسان (أبريل)، فقد وسعت البنوك المركزية من ميزانياتها العمومية بسبب انهيار الميزانيات العمومية للشركات المالية في القطاع الخاص.* وهذا هو ما يفترض أن يقوم به مقرض الملاذ الأخير في حالة الهلع الشديد. ونحن نعلم ذلك منذ القرن التاسع عشر.

بالتالي، حين ينتعش الإقراض الخاص ستعكس البنوك المركزية مسارها وتأخذ في بيع الموجودات في السوق وتقليص ائتمانها للبنوك. لكن هذا سيكون انتعاشًا طويلًا وهشًا. ويوجد خطر أعظم بكثير من التأخير المفرط، وهو الدخول في التقشف قبل الأوان. وخطر الإجراءات غير المناسبة والتقشف السابق لأوانه أعظم في منطقة اليورو. فإذا كان هذا هو الحال، فهناك فرصة لأن يتم اكتساح اليورو ومعظم نسيج التعاون الأوروبي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالبنوك المركزية لا تلعب على مراهنات صغيرة.

وإذا تمكنت البنوك من إدارة الخروج بصورة ناجحة، وهو أمر لعلنا لن نعلمه قبل العشرينيات من هذا القرن، فإن البنوك المركزية ستواجه عالمًا جديدًا؛ لأنها ستكون في حاجة إلى موازنة أدوارها القديمة (باعتبارها واضعة للسياسة النقدية) مع أدوارها الجديدة (باعتبارها ولي أمر الاستقرار المالي). وما يجعل تحقيق هذا التوازن أصعب حتى من ذي قبل هو التركة الفظيعة التي خلفتها الأزمة في مجال المالية العامة. فالمستويات العالية من ديون القطاع العام تهدد بالعودة إلى 'هيمنة المالية العامة'، وهو دور ستضطر فيه البنوك المركزية، طوعًا أو كرهًا، إلى تمويل الحكومة، بصرف النظر عن عدم مناسبة ذلك. إن العالم الجديد للبنوك المركزية في عصر ما بعد الأزمة سيخلق تحديات مؤسسية لا يستهان بها. فعلى المستوى المحلي، سيكون الموضوع هو كيفية تأمين التعاون اللازم بين سلطة المالية العامة والأجهزة المكلفة بالإشراف على المؤسسات الفردية، والإشراف على الاستقرار المالي وإدارة السياسة النقدية. وحتى في البلدان التي تكون فيها المسؤوليات الثلاث الأخيرة، كما هي الحال في بريطانيا، جزءًا من البنك المركزي، فإن العلاقات مع وزارة المالية ستكون في غاية الأهمية. فضلًا عن ذلك، فإن وضع السلطة في يد جهاز مركزي واحد يحمل معه مخاطره الخاصة حول عدم كفاية التعبير عن الاختلافات، والتفكير الجماعي، والفشل في نهاية المطاف.

لكن عالم السياسة الحصيفة في الاقتصاد الكلي سيعمل على توليد تداخلات عبر الحدود. فالبنوك التي تعمل في منطقة اختصاص قضائي معين ستكون لديها القدرة على توليد آثار سلبية كبيرة على المؤسسات العاملة في منطقة اختصاص قضائي آخر. وإدارة هذه الأمور ستكون صعبة للغاية، خصوصًا ضمن أوروبا.

مع ذلك، أصعب التحديات ليست مؤسسية، وإنما فكرية. فمن الناحية العملية، كيف ستتفاعل السياسات الرامية إلى تأمين الاستقرار المالي مع السياسة النقدية؟ مثلا، إمكانية أن تحاول اللجنة المسؤولة عن الاستقرار المالي تهدئة عمليات الإقراض في قطاع العقارات، في الوقت الذي تسعى فيه اللجنة المسؤولة عن السياسة النقدية إلى زيادة عمليات الإقراض في الاقتصاد. من الممكن أن تجد كل لجنة نفسها تعمل بصورة متناقضة مع اللجنة الأخرى.

والأمر الأساسي هو أنه لن يكون هناك شخص على ثقة بأن من الممكن إيقاف ميل النظام المالي للتحول باتجاه الأزمات الهائلة. والواقع أنه كلما طالت الفترة التي يتم فيها تحقيق النجاح، ازدادت مشاعر التهاون والرضا عن الذات، وربما ازداد معها مقدار الأزمة. مع ذلك، الأجهزة التنظيمية وعلى رأسها البنوك المركزية مقضي عليها بأن تحاول. إن ثمن أخطاء الماضي للبنوك المركزية هو الزيادة الحالية في مسؤوليتها. إنه حقًا تاريخ غريب وحافل بالأحداث.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك