من أساليب التلاعب في الحسابات الحكومية بقلم د. محمد آل عباس

الاقتصاد الآن

670 مشاهدات 0


كتبت مقالات عدة سابقة عن التلاعب المحاسبي في شركات القطاع الخاص، وطلب مني عدد من الأصدقاء أن أتطرق قليلا لأساليب التلاعب في الحسابات الحكومية بدءا من الميزانية وانتهاء بعمليات الصرف. كانت وجهة نظري في البداية أن ذلك أشهر من أن يحتاج إلى مقال، ثم استدركت ذلك ورأيت أنه يحتاج فعلا إلى مقال ليس كي نعلم الجيل الجديد كيف يتلاعب لكن لنؤكد أهمية وضرورة تطوير النظام الرقابي ككل. وعندما أقول النظام فلست أعني مؤسسة بعينها، بل النظام الرقابي بمفهومه العلمي الواسع الذي يشمل حتى أخلاق الإدارة العليا والموظفين في المؤسسة الحكومية، ومن ذلك أيضا تطوير النظام المحاسبي وأدواته ونظم التقارير المالية وعمليات اتخاذ القرار وحوكمة المؤسسات. هذا المقال يركز على التلاعب المحاسبي فقط لأن هناك أنواعا لا تحصى من التلاعب لا تستخدم فيها المحاسبة على أنه يجب التأكيد أيضا أن هذا العرض غيض من فيض.

 

من أبين وأشهر الأساليب في التلاعب عند إعداد الميزانية تضخيم بنود لا تنوي الجهة الحكومية صرفها، بل استخدامها كاحتياطي، وهذا يحدث بشكل واسع في الباب الثاني حيث تتعدد البنود وتتنوع، فالبنود في هذا الباب لم توضع للصرف على ما خصصت له، بل فقط لتركها حتى نهاية العام ثم يقوم صاحب الصلاحية بالنقل بين البنود (التي وضعت كاحتياطي) للصرف منها على البنود التي فيها عجز، وعادة فإن بند المكافآت والسفريات يتعرض للعجز مبكرا ولا يتم الصرف منه للمستحق طوال العام حتى إذا قاربت السنة على الانتهاء تم دعم هذا البند من بنود الاحتياطي على أن يصرف منه فقط لمصالح كبار الموظفين فقط، بينما على الصغار الوقوف بالدور بانتظار ميزانيات السنوات القادمة.

 

من أساليب التلاعب الغريبة تلك التي تحدث في الباب الرابع (باب المشاريع)، حيث تتم تسمية المشروع بأكثر من طريقة وليتم اعتماده أكثر من مرة، فمثلا هناك مشروع لطريق عام أو جسر معين فيسمى جسر كذا (باسم شخصية عامة مشهورة مثلا) ليتم اعتماد مخصصاته على هذا الاسم، ثم يعرض المشروع نفسه مرة أخرى، لكن بمبالغ أخرى باسم جسر كذا (باسم المكان عادة)، وهكذا يتم تخصيص اعتمادات لهذا المشروع مرتين أو أكثر بهذه الطريقة. مع إنني أرفض هذا الأسلوب جملة وتفصيلا، لكن البعض يدافع عنه على أساس أنه قد يكون جيدا في بعض الأحيان وخطير جدا في أحايين أخرى، والفيصل في الأمر هو المسؤولون عن الصرف في الجهة التي طلبت الاعتمادات، فإذا كان الهدف هو التغلب على تشدد وزارة المالية والحصول على اعتمادات كافية لتنفيذ المشروع بأفضل الطرق وتجنب تعثر المقاولين لأسباب مادية بحتة فإنه قد يكون مقبولا من الناحية الأخلاقية على الأقل وإن تسبب في بعض الهدر أحيانا، أما إذا كان الهدف الفساد والاستيلاء على هذه المخصصات فإن القضية خطرة جدا هنا.

 

من أساليب التلاعب في الباب الرابع أيضا أن يتم طلب تخصيص اعتمادات لبناء وتأثيث مبنى كذا بحيث تتضمن الاعتمادات المخصصة مبالغ البناء والتأثيت معا في مشروع واحد، ثم في الوقت نفسه يتم طلب اعتماد مبالغ لتأثيت المبنى نفسه مرة أخرى، لكن ضمن بنود الباب الثاني هذه المرة، فتكون الإدارة قد حصلت على المبلغ نفسه مرتين وللمشروع نفسه وفي العام نفسه، وهذا يحدث أيضا في جوانب أخرى منها تجهيز المعامل والحاسب الآلي بحيث تخصص المبالغ أكثر من مرة وتجد الجهات الحكومية ثروات تحت يدها مباشرة للتصرف الحر فيها، ما يسبب الهدر أو يوفر فرصا للفساد والاختلاس. هذا يحدث كثيرا بين البابين الثاني والثالث أيضا.

 

من بين أغرب أساليب التلاعب عند الصرف تلك التي تحدث عندما يتم نقل موظف بالترقية إلى خارج مقر إقامته، وهنا يستحق بدلات ترحيل والنقل المختلفة ويصرفها فورا، لكنه في الحقيقة لم ينتقل ولم يغادر مكتبه ولا منزله فعلا، بل يتم إصدار قرار بندبه إلى مقره الأصلي (الموجود فيه فعليا)، لكن التلاعب لا يقف هنا فقط، بل يحدث عندما يحصل الموظف نفسه مرة أخرى على البدلات المخصصة للترحيل والنقل بسبب قرار الندب الصوري (وهو لم ينتقل أصلا) فيحصل الموظف على البدلات نفسها مرتين وهو لم يرفع قدمه من مكتبه، ثم يزداد التلاعب عمقا عندما يتم إصدار قرار بنقله بعد فترة من مقره المفترض (الذي لم ينتقل له أصلا) إلى المقر الأصلي (الموجود فيه فعليا)، ومرة أخرى يصرف له بدلات الترحيل المقررة نظاما. فهو في الأصل لم يذهب ولم يتنقل، لكنه حصل على البدلات أكثر من مرة وغالبا في العام نفسه.

 

هذا كله وكما قلت غيض من فيض، فمن التلاعب في الفواتير وإصدار الفاتورة مرتين إلى إدراج موظفين في مسيرات الرواتب قد تم نقلهم إلى وزارات وجهات أخرى، واعتماد وصرف مكافآت لطلاب تم فصلهم، أو الاستمرار ولسنوات في صرف مخصصات الابتعاث لمن أنهى بعثته، وهذه تحدث في السفارات والملحقيات.

 

إن صورة التلاعب المحاسبي في الحسابات الحكومية كجبل الثلج يخفي تحت الماء أكثر بكثير مما فوق ظهره ولن يمكننا السيطرة عليه. فكلما تضخم الإنفاق في الميزانية العامة وتضخمت مخصصات الوزارات والجهات الحكومية وتعددت أوجه الصرف ارتفعت الأهمية النسبية للمبالغ المعرضة للهدر والفساد. وهذا معناه - في المقابل - أنه كلما صغرت قيمة البند قل اهتمامنا به (مع تضخم الميزانية). لكن المشكلة أن البنود الصغيرة موزعة بالآلاف وبهذا تشكل خطرا كبيرا وهائلا، بل تعد فرصا تشجع على الفساد في ظل وجود ضغط مادي علي الموظف ومبررات منطقية في نظره مع ضعف إجراءات الرقابة بشكل عام. وهكذا فلا حاجة إلى المزيد من التعليق حول أهمية تطوير نظام الميزانية العامة وتطوير أساليب الرقابة وخلق مناخ واسع من الأمانة والمسؤولية والأخلاق الفاضلة بين الموظفين، والحديث يطول هنا وليس هدفا للمقال.

 

 

 

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك