مقهى في مدينة تورينو الإيطالية التي تمضي فيها الحياة رغم أزمة البلاد المالية بقلم سايمون كوبر
الاقتصاد الآنمايو 6, 2013, 3:23 م 1880 مشاهدات 0
أحياناً تشعر بالحاجة فعلاً إلى أن تشم رائحة القهوة. حين وصلتُ إلى تورينو في الفترة الأخيرة ذهبتُ مباشرة إلى أقرب مقهى وطلبتُ قهوة ماكياتو. وجاءت امرأة ساحرة وقدمتْ لي القهوة. كان ذلك هو الكمال بعينه. سعر الفنجان يورو واحد. ثم طلبتُ فنجاناً آخر. كان المقهى عاديا تماماً، وكانت شراشف الطاولات باهتة، وعدد من المتقاعدين جالسون في الزاوية. لحظة السعادة الرخيصة التي من هذا القبيل، التي لا يمكن الحصول عليها في شكلها الخالص إلا في إيطاليا – تجعلك تتساءل: هل الأمور سيئة إلى هذا الحد في أوروبا؟ الحياة هنا أفضل مما يمكن أن تتصور نتيجة لمشاهدة التلفزيون.
لا مجال لإنكار أن كثيراً من الأوروبيين يشعرون بالمعاناة. مستويات البطالة هي الأعلى منذ أن بدأ العمل بالسجلات في فرنسا (3.2 مليون) وإسبانيا (ستة ملايين). والأنباء الأوروبية السيئة تتصاعد كل يوم تقريباً.
تمر أوروبا في وقت عصيب – إلا حين نقارنها على الأرجح بكل قارة أخرى وفي كل عصر من عصور التاريخ. مثلا، انظر إلى إسبانيا التي ضربتها الأزمة. يعيش الإسباني العادي في المتوسط حتى 82 سنة، أي أعلى بسبع سنوات مما كان عليه الحال في 1980. (تقول منظمة الصحة العالمية إن معظم البلدان التي يستطيع أهلها أن يتوقعوا البقاء على قيد الحياة حتى 82 سنة هي بلدان أوروبية). واليوم لا يزال دخل هذا الإسباني العادي، على الرغم من سنوات الأزمة، يعادل تقريباً ضعف دخله في 1980. وعبر أوروبا يغلب على الحياة اليومية أن تكون أكثر بهجة بالتدريج. مثلا، واصلت معدلات الجريمة انحفاضها في معظم البلدان الغربية. ولم تكن شوارع بريطانيا آمنة إلى هذا الحد منذ أكثر من 30 سنة، وفقاً لمكتب الإحصائيات القومية في بريطانيا.
ومن المهم أن ندرك أن حياة معظم الناس لم تتأثر بالتطور الأخير في أزمة منطقة اليورو. وفي الغالب يساهم دواء جديد جيد لسرطان الثدي في السعادة الجماعية أكثر مما يفعل رئيس وزراء جديد جيد. وهذه المكاسب تُقتسم بأكبر قدر من الإنصاف في أوروبا. وهذا هو السبب في أن سبعة من أفضل عشرة بلدان في مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي للفجوة بين الجنسين هي بلدان أوروبية. وكذلك ستة من أفضل عشرة بلدان هي أقلها فساداً من حيث مؤشر تصور الفساد في مقياس الشفافية الدولية. وحين رتبت وكالة المخابرات المركزية 136 بلداً من حيث المساواة في الدخل، كان أكثر 17 بلداً في هذه الفئة من أوروبا. ولا عجب أن إسبانيا واليونان تتفوقان على قطر في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية.
ومعظم بلدان الأسواق الناشئة متخلفة وراء أوروبا بعدة عقود: متوسط الدخل في روسيا والبرازيل والصين لا يزال أدنى من نصف الدخل في اليونان، وفقاً للبنك الدولي. مع ذلك، الصعود النسبي للبلدان الجديدة يولد الخوف المرضي. الصحافي الأمريكي المتمرس، توماس فريدمان، غالباً يقول إن ''الصين والهند تأكلان طعامنا''. لكن لأن الاقتصاد العالمي ليس لعبة يربح فيها طرف على حساب خسارة الطرف الآخر، الأصوب أن نقول إن الصين والهند تقومان بإعداد الطعام لنا. فكلما ازدادا ثراء ازدادت قدرتهما على شراء منتجاتنا الهندسية المتطورة وغرف الفنادق والسلع الفاخرة والجامعات وما إلى ذلك.
وما هو لافت للنظر كذلك مدى صمود الديمقراطيات الغربية بعد خمس سنوات من الأزمة. في 1981، حين أُطلِقت بعض الرصاصات في البرلمان الإسباني، كان الإسباني المتوسط لا يزال يتخوف من وقوع انقلاب فاشي في البلاد. أما اليوم فإن كل بلد في أوروبا الغربية هو ديمقراطية راسخة. وخلافاً للتوقعات، اليمين المتطرف الأوروبي لم يصعد بأعداد ضخمة أثناء الأزمة، وفقاً لما تقول مجموعة كاونتر بوينت للأبحاث والاستشارات في لندن. كذلك لم تشهد أوروبا الغربية مذبحة إرهابية كبيرة منذ 2005.
وقبل عقد من الزمان كان خبراء أمريكا يتنبأون بأن معاداة السامية، أو المهاجرين المسلمين، أو كليهما ستعمل على تمزيق أوروبا. بل إن روكويل شنابل، السفير الأمريكي إلى الاتحاد الأوروبي، قال في 2004 إن معاداة السامية في أوروبا ''تصل الآن إلى المستوى السيئ الذي كانت عليه في الثلاثينيات''. هذا الادعاء كان دائماً مثيراً للضحك، لكن مدى سخفه ينبغي أن يكون واضحاً الآن لشنابل. باختصار: هناك عدة كلاب لم تنبح في أوروبا خلال هذه الأزمة.
أمر آخر في غاية الأهمية كذلك هو أن الجولة التالية من الحروب لا يتوقع لها أن يشترك فيها الأوروبيون. إذا انفجر الوضع في إيران أو كوريا الشمالية أو تايوان، لن نكون هناك. كل ما في الأمر أنه لم تعد لدينا سفن حربية. في السنة الماضية تجاوز الإنفاق العسكري في آسيا إنفاق أوروبا ربما للمرة الأولى منذ أن بدأ الأوروبي بغزو العالم قبل 500 سنة. وينعي خبراء الدفاع عجز أوروبا، لكن إذا نظرنا إلى الجانب الإيجابي نجد أن الحكومات التي تمتلك جيوشاً قوية دائماً تبالغ قي تقدير قدرتها على إدارة الحرب بسلاسة، وتقع تحت إغراء الدخول في مغامرات فظيعة. هذا لن يحدث معنا. صحيح أن الأوروبيين الغربيين البالغ عددهم 400 مليون – أي 6 في المائة فقط من سكان العالم – لن يحكموا العالم ثانية، لكننا لا نريد ذلك.
حين تتمكن حتى مناطق مثل الصرب وكوسوفو من تحقيق السلام، فإنك تعلم أن أمراً رائعاً يحدث هنا. لعل الاتحاد الأوروبي يستحق فعلاً جائزة نوبل للسلام. وبالنظر إلى افتقار أوروبا للموارد الطبيعية، فإن البلدان الأخرى على الأرجح ستتركنا في سلام. يقول دانييل كيوهين، رئيس قسم الشؤون الاستراتيجية في ''فرايد''، مركز الأبحاث الأوروبي المختص بالسياسة الخارجية: ''ليس هناك شخص يمكن أن يتوقع حرباً في أوروبا تدخل فيها قوى كبيرة جداً''. إن أوروبا، كما يقول، تبدو بصورة متزايدة وكأنها ''ضاحية جميلة للغاية في عالم الجغرافيا السياسية''.
الأزمة الأوروبية لن تدوم إلى الأبد وبعد ذهابها سيكون الدور على قارة أخرى كي تتعرض للتقريع على أيدي الخبراء بسبب أنموذجها الغبي. يوماً ما سيحصل الأوروبيون على الوظائف من جديد، وسنكون مجرد مكان معزول بهيج به قهوة ماكياتو رائعة. هناك أماكن كثيرة العيش فيها أسوأ من ذلك يمكن أن تخطر على البال.
تعليقات