محاكمة عبدالله السالم

زاوية الكتاب

أحمد عقلة العنزي يفتح ملف تحالفات 'الأسرة مع التجار'

كتب 10508 مشاهدات 0


إن إحدى المعضلات الرئيسية التي تواجه أي باحث في تاريخ الكويت السياسي هي تلك التي تتعلق في نُدرة الدراسات النقدية والعلمية الجادة لهذا التاريخ, فمعظم المصادر والوثائق التاريخية التي بين أيدينا لا تقدم إلا صورة نمطية أحادية الجانب والرؤية ويغلب عليها الطابع المثالي الطوباوي الذي يقدم لنا الشخصيات والأحداث التاريخية بقالب بطولي مبتذل.

لكن مسيرة التطور العلمي قد زودتنا بجملة من المناهج العلمية التاريخية النقدية والتي من شأنها أن تُخضع التاريخ لا للمُثل والأهواء والمصالح الذاتية بل للمعايير الموضوعية التي تستوجب النقد العقلي وتفترض ضرورة الاتساق المنطقي للأحداث التاريخية  ما يعني إعادة موضعة أحداث التاريخ وشخصياته ومن ثم إعادة قراءتها في سياقها الموضوعي لا العاطفي.

إن هذا النوع من التاريخ العلمي لا يقبل بطبيعة الحال تلك الصورة المثالية الطوباوية التي يكرسها تاريخنا الرسمي حول شخصياته السياسية ومن بينها عبدالله السالم, فنظرة فاحصة موضوعية لحقبة عبدالله السالم لهي كفيلة بأن تضعنا أمام معطيات وتساؤلات مُحيرة وحقائق جديدة تؤدي بنا الى نتائج ربما تكون مفجعة لأنصار 'التاريخ الرسمي' بل وقد تقلب تاريخنا السياسي رأساً على عقب؟  

إن الفرضية التي يناقشها كاتب هذه السطور ويسعى بالتالي لإثباتها والدفاع عنها بوصفها فرضية معقولة وموضوعية تقول الآتي: على عكس تلك الصورة المثالية الطوباوية التي يكرسها تاريخنا الرسمي, فلم تكن حقبة عبدالله السالم حقبة بداية الحياة الديمقراطية الحقيقية التي يكون معها الشعب - وكل الشعب!- مالكاً لإرادته وسلطته وثروته, بل على العكس من ذلك تماماً, لقد كانت حقبة عبدالله السالم من أسوأ الفترات التي مرت على تاريخ الكويت السياسي والاقتصادي بل وأكثرها رجعية وتخلفاً من حيث أنها كانت تمثل بحق تتويجاً لذلك الصراع المرير الذي استمر بين أسرة الحُكم والطبقة التجارية حول السلطة والثروة - وهو ما ناقشناه بالتفصيل في مقال سابق - ما يعني بشكل أكثر وضوحاً, أن حقبة عبدالله السالم كانت تمثل بحق العصر الذهبي للطبقة التجارية التي تراكمت ثرواتها في عهده على وجه الخصوص, وهو ما نتج عنه بالمقابل دخول تاريخنا ونظامنا السياسي في حقبة جديدة حكمت عليه بالانحطاط والتراجع السياسي الشعبي حيث قُيدت إرادة الشعب - ردحاً من الزمن - في دستور 62 والذي ابتكره وعمل على صياغته التجار والأسرة الحاكمة فقط حيث لم يكن الشعب - كل الشعب ومصالحه- طرفاً حقيقيا فيه. سنضطر للوقوف قليلاً على جملة من الحقائق التاريخية التي من شأنها توضيح وإثبات أطروحتنا أو فرضيتنا الرئيسية في هذا المقال, وهي حقائق قد تكون غائبة لدى الكثير من القراء والمثقفين.

نقول عند وفاة سالم المبارك انتهز التجار فرصة 'الفراغ السيادي' ورفعوا وثيقة 1921 بوجه أسرة الصباح وتحديداً أحمد الجابر مطالبينها بالموافقة على إنشاء مجلس شورى يشارك هذه الأسرة في الحُكم وإدارة 'كافة' شؤون البلاد؟ وقد وضعوا في تلك الوثيقة - كما هو معروف -  أسماء ثلاث شخصيات من أبناء الأسرة الحاكمة وهم : أحمد الجابر وابن عمه عبدالله السالم وحمد المبارك, وأنهم - أي التجار- سيبايعون من يقبل بشروطهم؟! لقد ادرك احمد الجابر مضامين هذه 'المبايعة المشروطة' فوافق عليها سريعاً ودون تردد لقطع الطريق امام الطامحين لمسند الإمارة من أبناء أسرته. اذن لنسجل هذه الملاحظة الأولية وهي أن اختيار عبدالله السالم من بين هؤلاء المرشحين الثلاثة لمسند الإمارة لم يكُن في حقيقة الأمر امراً عبثيا واعتباطياً فيبدو ان عبدالله السالم كان بالفعل يطمح لمسند الإمارة منذ يفاعته السياسية كما سيتضح لاحقاً.
لقد كانت حقبة أحمد الجابر مسرحاً لصراع دراماتيكي بين أسرة الصباح والطبقة التجارية حول السلطة والثروة, وقد اشتد هذا الصراع بشكل أكثر وضوحاً عند توقيع أحمد الجابر مع الشركات النفطية الأجنبية لأول امتياز نفطي عام 1934, وهنا وفي هذا المناخ أسس التجار كتلة سياسية سُميت بكتلة العمل الوطني  أو كتلة الشباب الوطني واتخذت هذه الكتلة من 'سوق التجار' ميداناً سياسياً ومنبراً دعائياً لأنشطتها السياسية, فبدأت بحملة تطالب بمجلس تشريعي ودخلت في صراع مباشر وحاد مع أحمد الجابر, بل ووصل بها الحال ان طالبت المقيم البريطاني في الخليج بعزل الاسرة الحاكمة ممثله في أحمد الجابر ان لم يوافق - هذا الأخير - على مطالبهم وتعيين مستشاراً بريطانياً يحل محله لإدارة شؤون الكويت وذلك على غرار الحكم البريطاني في البحرين آنذاك, وعندما فشلت تلك المحاولة قامت كتلة التجار وأنصارهم - وبدعم من اذاعة قصر الزهور العراقية التي كانت تُبث من القصر الملكي العراقي, بل وبدعم مباشر من الملك غازي في العراق الذي حرك جيشه بالفعل للكويت لمساندة ما سُمي بالحراك الشعبي آنذاك - نقول قامت كتلة التجار بمحاولة انقلاب مسلح ضد احمد الجابر, وكانت محاولة الانقلاب تلك تجسد في الحقيقة 'ثورة برجوازية' ضد الأسرة الارستقراطية العشائرية الحاكمة, فتحصنت كتلة العمل الوطني ومن معهم في قصر نايف أو 'جبهة التجار' بينما تحصنت 'جبهة الأسرة الحاكمة' أي احمد الجابر وابناء البحارة والباديه وخصوصا العجمان والرشايده بقصر السيف, وعندما اشتدت المفاوضات وحمي الوطيس ووصلت الى حد الصدام المسلح المباشر تدخل عبدالله السالم – الطامح للحُكم- والذي يمثل الأسرة الحاكمة  ويوسف بن عيسى الذي يمثل الأعيان من التجار, فدارت مفاوضات دراماتيكيه انتهت بتسليم مفاتيح مخزن السلاح الذي كان بحوزة التجار ونزع فتيل الأزمة على الوجه الذي انتهت عليه؟!
لقد ذكرنا تلك الأحداث لأنها تُبرز أمرين مهمين: الأول هو ذلك الدور المركزي والمهم الذي لعبة عبدالله السالم في خضم الصراع بين الأسرة الحاكمة وطبقة التجار حول السلطة السياسية والثروة النفطية وهو دور لم يُخفِ أيضا طموحاً سياسياً ظل يُخالج عبدالله السالم وسعى لتحقيقه دون كلل أو ملل, كما أن نجاحة في ادارة تلك الأزمة مكنه - لاحقاً - من البروز كمرشح قوى لمسند الإمارة خلفاً لأحمد الجابر. هذا أمر, أما الأمر الآخر وهو إدراك عبدالله السالم ذاته لمكانة وأهمية وقوة طبقة التجار في معادلة الصراع  السياسي في معادلة الحُكم ذاتها فأخذ يميل لمهادنتهم وكسب ودهم. وهذا ما تم بالفعل, فبعد وفاة احمد الجابر لم يجد عبدالله السالم أي صعوبة - كأحمد الجابر مثلاً-  في الحصول على دعم ومساندة التجار له كحاكم للبلاد. اذن لنسجل هنا ملاحظة أخرى وهي أن عبدالله السالم لم يتصادم مع الأسر الاقتصادية أو طبقة التجار, فاتجه لمهادنتهم كما أسلفنا متجنباً اثارتهم بل ومنحهم 'الجمل بما حمل' كما سنبين أكثر الآن.

علينا أن نضع في اعتبارنا بأن الكويت عاشت في حقبة عبدالله السالم طفرة نفطية هائلة, لكن هذه الطفرة كان يقابلها ضحالة عمرانية بدائية تنتظر النهوض, لذلك خصص عبدالله السالم عائدات النفط المالية للقيام بمهام بناء وإعمار الكويت برمتها, وهنا وجد نفسه أمام اشكالية بدأت تبرز على السطح وتمثلت في عودة الصراع التقليدي بين قطبي الصراع, أي بين اسرته وابناء عمومته من جهة والتجار الذين ساندوه والذين يسيل لعابهم للاستئثار بمكاسب العائدات النفطية من جهة أخرى، وكان على عبدالله السالم, وامام هذا الاختبار الحرج, ان يختار بين هذين الطرفين. في الحقيقة كان أبناء الاسرة الحاكمة يعتبرون أنفسهم - وربما الى اليوم- مالكين لهذه الأرض وما عليها من مقدرات وثروات لذلك كانوا يجدون في مطالبات التجار في المشاركة في السلطة وأهمها ( سلطة التصرف في العائدات المالية للثروة النفطية) أمراً لا يمكن القبول به. لذلك بدأ الصراع منذ تولي عبدالله السالم للحُكم وتحديداً حينما أسس اللجنة التنفيذية العليا التي كانت تضم أبناء الأسرة الحاكمة فقط وهو ما أثار حفيظة التجار الذي عملوا على تأليب الرأي العام ضده وضد 'نهج المشيخة والاستفراد بالسلطة!', فاستجاب لهم عبدالله السالم وقام بحلَ تلك اللجنة وشكَل مجلساً موحداً سُمي بالمجلس المشترك وضم هذه المرة ابناء الاسرة الحاكمة والتجار على السواء, وهنا علينا أن نسجل هنا بأن هذا المجلس يُعد من أخطر المجالس التي عرفها تاريخ الكويتي الاقتصادي والسياسي فمن خلاله تم تشكيل مجلس الإنشاء الذي أوكل إليه مهمة صرف العائدات النفطية على خطط التنمية وتدشين البنية التحتية العمرانية للكويت.
ما نريد قوله هنا بأنه من خلال تلك المجالس استطاعت الطبقة التجارية الحصول على كل التسهيلات والمساعدات التي مكنتها من الاستحواذ على عائدات الثروة النفطية. كما مكنت التجار - لاحقاً- من تأسيس مجلس ادارة شركة البترول الوطنية عام 1961وبدعم مالي حكومي من عبدالله السالم وصل لحوالي60% من رأس مال الشركة البالغ وقتئذ 7,5 مليون دينار, حيث كان نشاط وهدف الشركة في بداية الأمر العمل في مجال الصناعات البترولية لكنها سرعان ما أفصحت عن الهدف الحقيقي لإنشائها أي مزاحمة الشركات النفطية الأجنبية لسحب الامتياز النفطي من هذه الشركات, وهو ما تزامن مع اطلاق شعارات سياسية قومية رفعها آنذاك ما سُمي بالوطنيين حيث تطالب تلك الشعارات بطرد الشركات الاجنبية المعادية للعرب وتأميم النفط! الذي كان يعني فيما يعنيه نقل الامتيازات النفطية من تلك الشركات الاجنبية الى الشركات التي بدأ التجار بتأسيسها وبدعم سلطوي, كما نتج عن ذلك أيضاً أن قدمت السلطة لمجلس ادارة شركة البترول الوطنية وهم من التجار وحلفاؤهم قرضاً مجانياً وبلا فوائد! قيمته 25 مليون دينار لبناء مصفاة الشعيبة! ليس ذلك فحسب, فقد أسس التجار شركة ناقلات النفط  وحصلوا على دعم مالي من السلطة الحاكمة يقدر بـ60% من رأس المال الشركة. كما أن هذه المكاسب التي حصل عليها التجار لم تقف عند القطاع النفطي فقط, بل بدأوا يتجهون أيضا للاستحواذ على القطاع المصرفي منذ نشأته, حيث تم تأسيس بنك الكويت الوطني بمنحه حاتميه من عبدالله السالم للتجار مؤسسي البنك وقيمتها مليون جنيه استرليني, ثم تبعها السيطرة على القطاع المصرفي كله فأسسوا البنك التجاري ثم الخليج فالأهلي ثم الشرق الأوسط الذي حل محل البنك البريطاني فالعقاري والصناعي وهكذا. كذلك لم تقف طموحات التجار عند ذلك فحسب بل استمروا في السيطرة على مفاصل الاقتصاد الكويتي برمته فأسسوا 'فيما بينهم' شركات مساهمه كشركة مطاحن الدقيق وشركة الصناعات الوطنية وشركة المواصلات, وكذلك شركة الإسبست الكويتية وشركة الاسماك والشركة الكويتية للمباني الجاهزة ومصنع الاسمنت وغيرها الكثير من الشركات العاملة في مجال البناء والانشاءات والمقاولات والأغذية, كما ظفرت السلطة وحلفاؤها من التجار بمشاريع الإعمار كلها وأولها ميناء الكويت ثم المطار فالمستشفيات مروراً ببناء المدارس والمناطق السكنية برمتها والتي ذهبت مناقصاتها للشركات التي أسسها التجار بدعم سلطوي. وباختصار نقول بأن السلطة ممثلة في عبدالله السالم قد ساهمت بشكل كبير بتمكين الطبقة التجار من الثروة الشعبية وساهمت في دعم واستفحال ثراء التجار من خلال تقديم القروض لإنشاء شركاتهم أولاً ثم سلمتهم بعد ذلك جميع المشاريع العمرانية الحيوية في الكويت منذ نشأتها الحديثة ثانياً, فعلى سبيل المثال لا الحصر, قدمت السلطة دعماً مالياً بنسبة 30% لقطاع البنوك عموما و27% دعما لشركات التأمين و39% لشركات الاستثمار و 58% للأغذية و 33% للصناعات و90% لشركات الخدمات وغيرها الكثير من الشركات التي أسسها التجار برعاية سلطوية فجة.
 لكن الأمر الأهم  والأخطر من ذلك كله هو أن الطبقة التجارية لم تكن تستطع الحصول على كل تلك المكاسب لولا وجود ميثاق أو دستور يحمي مصالحها ويضمن لها السؤدد والسيطرة, لذلك استطاع التجار - أو ما يُسمى اعتباطاً بالآباء المؤسسون! - صياغة دستور 62 الأجوف لا لتقييد سلطة الاسرة الحاكمة فحسب وانما لتقييد الإرادة الشعبية الحقيقية برمتها وهذا هو المهم, أي تقييد الإرادة والسلطة الشعبية التي بإمكانها - لو وُجدت - أن تضع قيوداً اقتصادية على الأنشطة التجارية والتجار أنفسهم وذلك من خلال التوزيع العادل للثروة النفطية وفتح الباب على مصراعيه أمام الشعب كله للمنافسة التجارية الحرة وبالتالي كسر الاحتكارات التجارية, وغني عن البيان أن الهدف من إلغاء الإرادة الشعبية هو لضمان عدم اطلاق الاسرة الحاكمة - والشعب أيضا- أيديهم للتصرف في عائدات الثروة النفطية وإبقاءها بالمقابل محتكرة وتحت سلطة الطبقة التجارية وشركاتها التي تستثمر هذه الثروة لصالحها, ولن يتم ذلك لولا وجود دولة مؤسسات شكلية! أي ظاهرها دولة مؤسسات وباطنها قوانين وأنظمة يضعها التجار وحلفاؤهم وفقاً لمصالحهم التجارية بحيث تكون السلطة الحقيقية في هذه القوانين لا لقيم العدالة الشعبية وانما لمن وضع هذا الدستور ونادى به, ووضع يده بالتالي على مفاصل الاقتصاد, أي لقيم البرجوازي الجشع!
لندخل في الرهان ونقول بأن حقبة عبدالله السالم كانت بحق أسوء حقبه سياسية واقتصادية مرت في تاريخ الكويت بل واخطرها على الإطلاق, فهي تمثل العصر الذهبي لطبقة التجار من جهة لكنها من جهة اخرى تمثل بداية عصر الانحطاط بالنسبة للشعب ولفكره ونظامه السياسي والاقتصادي على السواء! ففي تلك الحقبة تم تقنين الأعراف القبلية الارستقراطية في الحُكم ودمجها في نظام ديمقراطي بورجوازي جسده دستور ٦٢ الذي يعبر ويجسد أيضا التحالف الطبقي بين الإقطاع الارستقراطي العشائري الحاكم والطبقة البورجوازية المسيطرة, وهو تحالف استراتيجي تحقق على مستويين خطيرين يمثلان اهم ركنين من أركان الدولة, ونعني بهما 'تحالف سياسي' اتجه لتقييد الارادة الشعبية ردحاً من الزمن, والآخر 'تحالف مصلحي تجاري' ظهر وتمثل في الاستيلاء على الثروة النفطية وعائداتها منذ ظهور النفط والى يومنا هذا!
اذن ألا يحق لنا نحن أبناء هذا الجيل, ان نُحاكم حقبة عبدالله السالم, ونتساءل فقط : أين ذهبت ثرواتنا وكيف نستعيد إرادتنا؟
بقلم د.احـمـد عـقـله الـعـنـزي

الآن - رأي / د.أحمد عقلة العنزي

تعليقات

اكتب تعليقك