خليل حيدر يكتب: 'الموصل' أسيرة داعش!

زاوية الكتاب

كتب 1370 مشاهدات 0


الوطن

طرف الخيط  /  'الموصل'.. أسيرة داعش

خليل علي حيدر

 

في ديسمبر 2013، عاشت مدينة «الموصل» مشهدا انسانيا فريدا. فقد وقفت والدة الصحافية العراقية «نورس النعيمي»، التي قتلت بدم بارد قرب منزلها قبل اسبوع في المدينة، وجها لوجه امام قاتل ابنتها، فقبلته على رأسه! وقالت له: «لقد زفيت ابنتي عروسا للجنة». وعرضت قناة «الموصلية»، التي كانت «نورس النعيمي» تعمل لديها كمقدمة برامج، تقريرا مصورا تناولت فيه ظروف مقتل الصحافية الشابة وعملية اعتقال قاتلها، واعادة تمثيل الجريمة في الموصل.
وكانت الاعلامية العراقية نورس، وهي من مواليد 1994، قد اغتيلت ضمن سلسلة اعمال العنف والارهاب التي استهدفت الصحافيين في البلاد. وبعد اعادة تمثيل الحادثة، قام عناصر من الجيش بأخذ المتهم الى منزل عائلة الضحية.
«وفي مشهد درامي، وقفت والدة الصحافية نورس النعيمي امام قاتل ابنتها الذي لم يجرؤ على النظر إلى وجهها، ولا التفوه بكلمة واحدة للدفاع عن نفسه. وقالت الام بصوت حزين وهي تضع يدها على كتف المتهم (لقد حملت ذنبها، لكنك زفيت ابنتي عروسا الى الجنة فهنيئا لها الجنة»، وقامت بتقبيله من رأسه.
وتابعت، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، قائلة: «يا ولدي، انت جاهل امي لا تعرف القراءة والكتابة وابنتي تتحدث لغتين».
وانتقلت الام المفجوعة بابنتها، الى غرفة نومها وهي تقلب حاجياتها التي كانت بحوزتها اثناء مقتلها، ورفعت كتابا عنوانه «المدخل الى حقوق الانسان» وهو مخضب بالدماء، لتقول بصوت خافت «هذا الكتاب استعارته من صديقتها، لن امسح دمها عنه حتى يبقى ذكرى».
واضافت متسائلة: «هل يقبل الله ان تقتل هذه الطفلة الحلوة؟ كانت من قدر حبها للدراسة تحضن كتبها وهي ميتة، تخلت عن حياتها ولم تتخل عن كتبها». الشرق الأوسط،(2013/12/24).
سقطت مدينة الموصل، احدى اقدم واجمل واثرى مدن العراق بالذكريات التاريخية، بيد تنظيم داعش والقوى المتحالفة معه يوم 10 يونيو 2014، وبهذا دخلت المدينة التي عاشت عبر تاريخها ظروفا دموية قاسية احدى هذه المراحل مرة اخرى، بعد ان ذاقت الويل من الاعمال الارهابية والتفجيرات منذ 2003، حيث شهدت الايام الاولى من الاحتلال نهب العديد من المصارف والمؤسسات الرسمية.
تدهور الوضع الامني بالمدينة بعد ان هيمنت قوى تنتسب الى «القاعدة» وبسطت سيطرتها على اجزاء من المدينة، ما دفع الحكومة العراقية الى ارسال «لواء الذيب» اليها، كما دارت معارك شرسة بين المسلحين وقوات امريكية اواخر عام 2004.
«يشكل العرب السنة معظم سكان المدينة. كما ينتشر بها الاكراد الذين ينتمون للمذهب السني في الغالب، بالاضافة الى وجود ملحوظ للتركمان والعرب الشيعة داخل المدينة وفي ضواحيها». (موسوعة ويكبيديا) وكان عدد اليهود بالمدينة في القرن الماضي اكثر من الف نسمة، نزحوا بشكل جماعي الى اسرائيل في اوائل خمسينيات القرن.
ارهابيو «داعش» بالطبع.. اخر من سيحترم هذه التعددية، او يراعي حقوق المرأة والحياة المدنية!
عاشت الموصل قبل نصف قرن تجربة مروعة في ظل ثورة 14 تموز 1958! فبعد هذه الثورة، تقول الموسوعة نفسها، اعلن عبدالكريم قاسم، قائدها، قيام الجمهورية العراقية، وكانت من اولى قراراته تأميم المؤسسات غير الحكومية والغاء النظام الاقطاعي، وقد ادى هذا، بالاضافة الى نهجه المعادي للقوميين العرب والمقارب من الشيوعيين الى قيام عصيان قاده عبدالوهاب الشواف قائد الفيلق الخامس بالجيش العراقي بالتحالف مع شيوخ عشيرة شمر والاقطاعيين الذين فقدوا اراضيهم، فأعلن الشواف في اذار 1959 من خلال راديو الموصل العصيان على عبدالكريم قاسم ودعا الشعب الى حمل السلاح ضده. فقام عبدالكريم بتجنيد الكوادر الشيوعية في المصول للرد على هذا العصيان وقد عاونهم في ذلك العمال والحرفيون في الموصل والفلاحين في القرى المسيحية المحيطة بها، وعلى الرغم من النجاح الاولي للقوميين الا ان الشيوعيين قاموا بهجوم مضاد قتل خلاله الشواف واستمرت المعارك الدموية كما قامت القوات الجوية العراقية بقصف ثكنات الفيلق الخامس وجابت الدبابات شوارع المدينة. استمرت المعارك الطاحنة بين القوميين والعشائر العربية والكردية وملاك الاراضي من جهة والقوميين والمسيحيين والطبقات الفقرية من العرب والاكراد عدة ايام انتهت بهزيمة القوميين، فقام الشيوعيون باعدامات استهدفت اعضاء الاحزاب القومية راح ضحيتها المئات. تركت هذه الاحداث اثرها العميق في الموصل ونزح العديد من سكانها الى بغداد هربا من الانفلات الامني الذي اتسمت به الفترة التي تلت الثورة».
لفتت التشكيلة البشرية للموصل الانظار اليها من قديم. يقول المؤرخ العراقي عبدالرزاق الحسني: «للموصل طابع خاص في شكل الاجناس المتباينة التي تختلف الى مقاهيها، وتجوب اسواقها وشوارعها. يؤمها الكرد من الجبال، والعرب من البادية، والنساطرة واليزيديون وغيرهم من سائر الاطراف المجاورة، في حلل فضفاضة، وألوان زاهية تبهر الابصار. وسكان المدينة على جانب من الدعة وسرعة الخاطر، تتدفق حياتهم همة ونشاطا، كما تتدفق مدينتهم رونقا وجمالا، وهم شديدو التمسك بعرى الدين، كثيروا المحافظة على العادات القديمة.. وفيها قبر الشاعر ابي تمام والمؤرخ ابن الاثير صاحب «الكامل»، ومن الموصل كان ابراهيم الموصلي وابنه اسحاق، نديما هارون الرشيد، الشهيران بفن الغناء والموسيقى». (العراق قديما وحديثا، لبنان - صيدا، 1958، ص249).
نشرت مجلة العربي استطلاعا عن الموصل في مارس 1961، بعد الاحداث الدامية التي تعرضت لها المدينة العريقة! وقد لاحظ معد الاستطلاع، «ان الموصل لا تزال ترتدي السواد حدادا على ضحاياها وشهدائها. وما من اسرة فيها الا وقد خرجت من المحنة الاخيرة بقلب جريح وفؤاد مكلوم».
لا نعرف اليوم للاسف حال السيدة العظيمة والدة الاعلامية «نورس النعيمي» التي اغتالها الارهاب قبل عام، ولكن هذه العراقية ضربت حتما مثلا رائعا من امثلة التسامح.. والعفو عند المقدرة.

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك