لماذا لا نتوقف لنعرف أسباب تعثرنا التنموي؟!.. خليل حيدر متسائلاً
زاوية الكتابكتب سبتمبر 9, 2014, 12:37 ص 538 مشاهدات 0
الوطن
أفكار وأضواء / إسرائيل.. والتحديات الاقتصادية
خليل علي حيدر
لماذا لا نتوقف عند هذه الحقيقة المزعجة لنستخلص منها الدروس ونعرف أسباب تعثرنا التنموي بدلاً من معايرة إسرائيل بنجاحها؟
لقد بددنا أموال النفط وغيرها في أغلب الأحيان على الإنفاق الاستهلاكي والرفاهية ومضاعفة الرواتب وتضخيم جهاز الدولة والبطالة المقنعة
كيف تطور الاقتصاد الاسرائيلي منذ قيام هذه الدولة عام 1948، وما المراحل التي مر بها، والمشاكل التي جابهتها؟ وما العلل والاسباب في النجاحات والاخفاقات التي واكبت هذه المسيرة على امتداد ستين عاما ونيف؟
نعود الى كتاب «دليل اسرائيل العام 2011»، الصادر في بيروت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والى الباحث نفسه د.فضل النقيب، استاذ الاقتصاد بجامعة «واترلو» بكندا، فنراه يُفرد جزءاً من بحثه للحديث عن «التطور التاريخي للاقتصاد الاسرائيلي 2009-1948»، ويقول: «مر على قيام دولة اسرائيل ستة عقود، ويمكن القول ان السمات العامة لاقتصادها طوال هذه المدة هي: النمو والتطور والتقدم فقد ازداد عدد السكان ستة اضعاف تقريبا، وبينما كان متوسط دخل الفرد اليهودي يساوي ضعفين ونصف ضعف دخل الفرد العربي في فلسطين سنة 1947، فإنه يبلغ الآن نحو خمسة عشر ضعف دخل الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة».
ويضيف الباحث: «باختصار، في حين نشأت اسرائيل كدولة من الدول النامية في غرب آسيا، فقد تفوقت الآن بالنسبة الى مستوى المعيشة على كثير من الدول الاوروبية كإسبانيا واليونان والبرتغال، وهي في طريقها الى ان تصبح مماثلة لبريطانيا وايطاليا» (ص544).
ويجدر بنا، ابناء وبنات العالم العربي وبخاصة المنطقة الخليجية، ان ندرك ان هذا الثراء ليست مصدره الوحيد المساعدات الخارجية، بل التنمية الاقتصادية الهائلة في الداخل، ثم علينا ان نلاحظ كذلك ان اسرائيل ليست كبيرة ولا هي دولة نفطية، وسكانها اكثر من سبعة ملايين نسمة (عام 2010).
وهكذا فهي اعلى دول وشعوب المنطقة دخلا ورفاهية، ان نحن استثنينا الدخل البترولي الذي يجعل بعض الدول العربية «اثرى دول العالم»، واعلاها في مستوى الدخل، اما لارتفاع اسعار النفط، او لقلة سكان هذه الدولة.
وبينما لا تبدي اي دولة عربية تقريبا استعدادها لاستقبال اعداد كبيرة او صغيرة من المهاجرين، العرب او غير العرب، دع عنك ان ترحب بهم وتجنسهم وتصرف لهم المال وتفتح لأبنائهم المدارس، ولهم جميعا المستوصفات والمستشفيات وسبل الرفاهية!.
نرى في المقابل، ارتباط النمو الاقتصادي في اسرائيل بالهجرة، فمعدلات النمو العالية، يقول د.النقيب، «كانت دوما ملازمة لمعدلات الهجرة العالية، فأعلى معدلات نمو حدثت في الخمسينات والسيتنات عندما سجل تزايد السكان (الهجرة) معدلات عالية، واقل معدلات نمو كانت في الثمانينات مع اقل معدلات تزايد سكاني، ولم يستَعِد النمو زخمة القديم الا في التسعينات مع تدفق موجهة الهجرة الروسية».
ومما يؤسف له في الكتابات والدراسات العربية عن القضية الفلسطينية واسرائيل، تناول الباحثين لظاهرة الهجرة هذه، واسهام المهاجرين في الارتقاء بموطنهم الجديد بنظرة سلبية، محاولين الانتقاص من النجاح الاسرائيلي المتميز، في حين ينبغي ان ندرس وسائل نجاح هذه الدولة في هضم كل هذه الهجرات، ودمج هؤلاء المهاجرين القادمين من دول وثقافات مختلفة ومن انظمة اقتصادية واجتماعية وتعليمية متنوعة، ضمن الاقتصاد الوطني والقوى العاملة، كل هذا، وسط مخاطر سياسية كثيرة، وجيران خطرين عليها بين حين وآخر، وضغوطات اقتصادية ودولية وغيرها، انه انجاز خارق لم ننجح فيما يماثله!
والآن هل هناك دولة عربية واحدة قادرة على استيعاب ملايين المهاجرين، ودمجهم في الاقتصاد الوطني، والاستمرار في الصعود الاقتصادي والتنمية بل واللحاق بالبلدان الاوروبية!.
مر الاقتصاد الاسرائيلي خلال نصف القرن الماضي، يقول د.النقيب بمراحل ست اساسية:
أ – فترة التقشف والتأسيس 1954-1948 ففي هذه المرحلة «ركزت الحكومة الاسرائيلية على ثلاث اولويات، تمثلت الاولى في تأسيس جيش قوي وعصري، وهذا ما قاد الحكومة الى اعطاء الانفاق العسكري اولوية مطلقة، اما الثانية فكانت استيعاب المهاجرين، فقد تدفق على اسرائيل مائة الف مهاجر سنة 1948، وتضاعف هذا العدد سنة 1949، كما تضاعف بعد ثلاثة اعوام ونصف العام واما الثالثة، فكانت بناء مؤسسات الدولة الجديدة، مثل مؤسسات الخدمة المدنية، والمصرف المركزي، ومؤسسة الضمان الوطني، والاذاعة وغيرها، وقامت الحكومة ايضا بتأمين النشاطات الاقتصادية ذات العلاقة بالموارد الطبيعية اما من ناحية التنمية الاقتصادية، فقد انصب اهتمامها على التنمية في القطاع الزراعي وموارد المياه والمستعمرات» (ص545).
ب – ما بين 1972-1954، سنوات الحروب والانقلابات وانطلاق المد الاسلامي السياسي في العالم العربي، بدأت فيها بالمقابل «فترة النمو السريع في اسرائيل».
في هذه الفترة يقول الباحث، «بدأ تدفق رأس المال الاجنبي عن طريق التعويضات الالمانية، فأحدث، مع زيادة اليد العاملة بفعل الهجرة، نموا سريعا في النشاط الاقتصادي وقفز معدل الناتج القومي الاجمالي الى %17.
وانتهى في هذه الفترة النمو الكبير للزراعة بحكم استغلال الاراضي المتاحة كافة، وبات النمو الاقتصادي يعتمد بصورة رئيسية على الصناعة كما بدأ قطاع الخدمات ينمو بمعدلات عالية، وكان هذا النمو يتم بإشراف الحكومة التي اخذ دورها يتعاظم».
وفي هذا التحليل لحقيقة ما جرى في الاقتصاد الاسرائيلي، اي التركيز على «المساعدات الخارجية» ما يستحق التعليق كذلك، فالواقع ان الاموال التي تدفقت على العالم العربي منذ عام 1974 الى 2014، خلال اربعة عقود، ليست بالقليلة من دخل النفط والمساعدات الخارجية والتحويلات المالية التي تقوم بها العمالة المهاجرة، ولكن هذه الثروة الخيالية التي ربما بلغت التريليون او نحو ذلك، لم نتصرف بها بحكمة ولم تُستثمر بشكل جيد، ولم تُحدث نقلة نوعية في اي بلد عربي تقريبا، ليدخل هذا البلد العربي في عداد الدول المتقدمة كما هي اسرائيل اليوم، الا ان الكتاب والباحثين في بلداننا لا يزالون «يعايرون» اسرائيل بأن سبب تقدمها «المساعدات الخارجية» والتي هي مبالغ لا تقارن على الاطلاق بالمليارات التي اغرقت ولاتزال البلدان العربية، لا الدول الخليجية وحدها، بل وكذلك العراق والجزائر وليبيا وحتى مصر ولبنان! فلماذا لا نتوقف عند هذه الحقيقة المزعجة لنستخلص منها الدروس، ونعرف اسباب تعثرنا التنموي، بدلا من معايرة اسرائيل بنجاحها الهائل؟
لقد بددنا اموال النفط وغيرها في اغلب الاحيان على الانفاق الاستهلاكي والرفاهية، وعلى مضاعفة الرواتب وتضخيم جهاز الدولة والبطالة المقنعة، واحيانا اخرى على المشاريع الوهمية كما في ليبيا القذافي، او تكديس السلاح كما في عراق صدام حسين.
ومازال هذا حالنا مع الثروة البترولية الجديدة التي تتدفق منذ ان تجاوز سعر البرميل الـ100 دولار او الـ 150 دولاراً في السنوات الاخيرة، دون ان نعتبر بما جرى لنا بعد «حرب اكتوبر»، وارتفاع اسعار النفط بعد عام 1973، وتدفق «الفوائض المالية» التي لم تبعث اي نهضة او نقلة نوعية صناعية في اي دولة.
جـ - سنوات المال والثراء وتضاعف الثروة البترولية العربية، 1985-1973 كانت «فترة الكساد والتضخم» في اسرائيل بعد ازدهار ونمو الاقتصاد ما بين 1972-1954.
بدأت هذه الفترة في الاقتصاد الاسرائيلي بعد حرب 1973 اذ تراجع النمو بمعدلات عالية حتى انه بلغ الصفر في بعض السنوات، ولم يتجاوز طوال هذه الفترة %3 سنويا، وفي الوقت نفسه، يقول د.النقيب، «حدث تضخم مالي وارتفاع مستمر للاسعار وعجز كبير في ميزانية الحكومة، وميزان المدفوعات التجاري»، وينفي الباحث ان تكون ضخامة تكاليف حرب 1973 وما احدثته من ارتباك في النشاط الاقتصادي، والارتفاع المفاجئ في اسعار النفط هما السببان الرئيسيان في الكساد والازمة الاقتصادية.. في اسرائيل!.
ويرى د.النقيب ان «الازمة في الواقع ابتدأت في اواسط الستينيات، لكنها لم تستفحل بحكم حرب 1967، وما قدمته للاقتصاد الاسرائيلي من اسواق جديدة ويد عاملة رخيصة، لكن عندما انتهى مفعول ذلك، بدأ الاقتصاد يتجه نحو الكساد».
د – فترة الاصلاح الاقتصادي، والتي امتدت ما بين 1985 و1989 والتي تفاقمت بسبب سياسات حزب الليكود حتى «كاد الوضع يهدد بانهيار مالي كامل لولا المساعدة الامريكية التي بلغت مليار ونصف مليار دولار، وتأليف حكومة وحدة وطنية تبنت برنامج اصلاح اقتصادي في سبتمبر 1985»، تضمن خفضا كبيرا في الانفاق الحكومي، وقبول الهستدروت خفض اجور العمال، وقبول الشركات الكبرى خفض الارباح، وهكذا حقق برنامج الاصلاح الاقتصادي نجاحا كبيرا، وتراجع حجم العجز في ميزانية الحكومة.
هـ - دخل الاقتصاد الاسرائيلي فترة نمو واتساع خلال التسعينيات، فقد تدفقت هجرة جماعية من الروس الى اسرائيل لم تشهد لها مثيلا منذ الخمسينيات ادت الى زيادة مهمة في تركم رأس المال بشقيه المادي والبشري، «فبالنسبة الى الشق الاول، تمكنت اسرائيل من اقتراض عشرة مليارات دولار بأسعار فائدة متدنية، بسبب ضمانات امريكية، وهو ما مكنها من القيام بعملية استيعاب المهاجرين وفتح ابواب العمل امامهم، اما بالنسبة الى الشق الثاني، فقد تميزت الهجرة بانها ضمت مهاجرين ذوي ثقافة ومهارات فنية متقدمة».
كما انطلقت في الوقت نفسه العملية السلمية في الشرق الاوسط بمؤتمر مدريد وتوقيع «اتفاق اوسلو»، بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل سنة 1993، ثم اتفاقية «وادي عربة» بين الاردن واسرائيل سنة 1994.
وقد قدمت العملية السلمية لاسرائيل الفرصة التاريخية، يقول الباحث لقطع مسافة كبيرة في التخلص من ثلاث عقبات: المقاطعة العربية، محدودية العلاقات الدبلوماسية الاسرائيلية مع الكثير من دول آسيا وافريقيا، الحصول على اجواء مستقرة للاستثمار الدولي في اسرائيل. «فعندما اعلن مجلس التعاون الخليجي في سبتمبر 1994 ان دوله لم تعد معنية بالعمل وفق قيود المقاطعة الثانوية لاسرائيل، تم فتح الباب امام كثير من الشركات متعددة الجنسيات كي تتعامل مع اسرائيل من دون ان تتعرض لخسارة الاسواق العربية، واقامت اسرائيل علاقات دبلوماسية مع عشرين دولة، وبعد ذلك استمرت في اقامة علاقات مع بلاد اخرى، وكان من اهم ما حدث انفتاحها على اسواق الصين والهند.
وعندما اخذت الدول العربية تعقد مع اسرائيل مؤتمرات قمم اقتصادية هدفها اقامة تعاون وتنسيق اقتصادي، شاع جو من التفاؤل بمستقبل العملية السلمية، شجع الشركات العالمية، بشكل جعل من حقبة التسعينيات فترة نمو وازدهار ادت بالاقتصاد الاسرائيلي الى ان يحتل مكانة مرموقة في الاقتصاد العالمي فأخذت صادراته من السلع ذات التقنية العالية تكتسب سمعة عالمية، واصبح مستوى معيشة الفرد في إسرائيل يضاهي معيشة الفرد الاوروبي» (ص 549).
و – دخل الاقتصاد الاسرائيلي ما بين 2009-2000، القرن الحادي والعشرين، بعد عشرة اعوام من النمو المستمر بمعدلات عالية، وبعد مرحلة من التأثر بانتفاضة الاقصى الفلسطينية، استعاد المجتمع الاسرائيلي جو الهدوء النسبي داخل اسرائيل، وكذلك الاقتصاد استعاد قدرته على النمو مع نهاية سنة 2003، وتميز النمو الاقتصادي هذه المرة بعد عام 2003 بالاعتماد على زيادة الصادرات الصناعية التكنولوجية العالية، وانخفاض البطالة، وتحسن ملحوظ في مؤشرات الاقتصاد، «كما زاد لأول مرة في تاريخ اسرائيل حجم صادراتها سنة 2006 عن حجم وارداتها، وسجل ميزان المدفوعات التجاري فائضا بعد ان كان يعاني من العجز المزمن».
وعندما اجتاحت الازمة المالية العالمية الاقتصاد الدولي عام 2008، كانت خسارة اسرائيل ضئيلة جدا، وكانت خسارة الناتج المحلي الاجمالي في اسرائيل في سنة 2009 اقل كثيرا من متوسط الخسارة العالمية، وايضا اقل مما خسرته بسبب الانتفاضة الفلسطينية في الفترة 2002-2001، وهو دليل يضيف د.النقيب، «على تحسن اداء الاقتصاد الاسرائيلي وتعاظم قدرته على مواجهة الصدمات الاقتصادية» (ص553).
تعليقات