لماذا يصر الكويتي على الانتحار الاقتصادي البطيء؟!.. فهد الصباح متسائلا

زاوية الكتاب

كتب 982 مشاهدات 0

فهد الصباح

النهار

رأي اقتصادي- لماذا يصر الكويتي بجهله على الانتحار الاقتصادي البطيء؟

فهد داود الصباح

في المراحل الانتقالية للمجتمعات يحاول الجيل الذي يعاصر بدايات المرحلة ان يحافظ قدر الامكان على عاداته وتقاليده، خصوصا فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي منها، فيما يعمل في الجانب الاستهلاكي على تعويض ما عاناه من حرمان بتوفير اقصى درجات الراحة والاكتفاء لاولاده، وفي الوقت نفسه يحاول نقل تجربته المريرة اليهم، كي لا يقعوا في فخ الاستهلاك والعوز والحاجة والاتكال على ما بين ايديهم. هذا يكون في المجتمعات القادرة على الاستفادة من تجارب الماضي، لكن في الكويت للاسف لم نستفد من تجارب الاولين، ففي مرحلة ما قبل النفط كانت هناك تقاليد وعادات حميدة بدأت بالزوال، بل واقعيا هي زالت منذ عقود لسبب بسيط هو ان العرب لا يعرفون كيف يتعلمون من تجارب الماضي، ولهذا فان السلوك الاستهلاكي المفرط في الانانية الذي يسود مجتمعنا حاليا سببه غياب الوعي الارشادي حول ما يجب ان يكون عليه المجتمع مستقبلا، او بمعنى اخر اننا لا نعرف كيف نخطط للمستقبل، ونأخذ من الامور عناوينها فقط من دون البحث في تفاصيلها، ففي التنمية مثلا نأخذ العناوين فتصبح عندنا هذه المسألة هي البنية التحتية غير المنتجة، اما في التوعية فاننا تخلينا عن الماضي، بل اعتبره كثير من الكويتيين مرحلة سوداء يخافون العودة اليها، ومثال على ذلك ان مرحلة تثمين المنازل القديمة من اجل اعادة تخطيط البلاد، جعلت البعض يراكم ثروات هائلة لانه ادرك انها الفرصة التاريخية التي لن تتكرر ثانية بينما الغالبية اتجهت الى الانفاق الاستهلاكي فوجدت نفسها بعد فترة لا تملك ما يكفيها للعيش.

هذا النمط الاستهلاكي انتقل الى الجيل الثاني، الذي بدلا من ان يتفرغ للبناء واقامة مجتمع منتج تحولت مسألة ضمان الدولة وظيفة المواطن، عند الكثير الى الحصول على حصة هذا المواطن من الثروة، واصبحت مسألة توفير السكن والقرض الميسر، ومنحة الزواج وغيرها مصدرا من مصادر الافساد المجتمعي، كأن ترى احدهم لديه ثلاث او اربع سيارات، بينما هو لا يحتاج الا الى واحدة، فسقطت من الحسابات مثلا مسألة النقل الجماعي، وتحولت لدى الكثير من الكويتيين الى انها وسيلة للطبقة الدنيا من العاملين الوافدين، وهذا ادى بالدولة الى اهمال هذا القطاع، اضافة طبعا الى ما يمثله امتلاك اكبر كمية من السلعة ذاتها الى هدر، كأن ترى احدهم ان لديه اكثر من هاتف نقال، وكلها يدفع فواتيرها كل شهر، بينما اذا اجريت دراسة على طبيعة استخدامه لهذه الهواتف لوجدت انها كلها لا معنى لها، اي امور ثانوية تافهة، فيما في المجتمعات التي ادركت منذ البدء كيف تدير شؤونها الاستهلاكية تجد ان مسألة الهاتف النقال حتى اليوم جزء من الرفاهية او الضرورة للعمل، ولا تستخدم بالمعدل الذي تستخدم فيها عندنا، لدرجة ان الهواتف الثابتة اصبحت في العديد من المنازل من الكماليات، فالواحد يكون لديه هاتف ارضي بينما يجري كل مكالماته من هاتفه المحمول، وربما البعض اذا رن جرس الهاتف الارضي يستغربون.

في الاستهلاك ايضا، او بالاحرى في الجهل الاستهلاكي المتحكم بسلوك المجتمع الكويتي، نرى في شهر رمضان ذاك الاقبال الهائل على المواد الغذائية التي يهدر منها 75 في المئة، فقط من اجل تعويض ما حرمنا منه اثناء ساعات الصيام، اي اننا اخرجنا هذه العبادة عن مفهومها الصحيح وادخلناها فيما يمكن اعتباره التباهي الاستهلاكي، ولهذا يزداد الانفاق على الهدر، وهي من الغرائب التي لم يسبق لاي مجتمع ان وضع مصيره كله على عاتق المجهول وراهن على امكانية استمرار الدولة في الرعاية الكاملة لشؤون المواطن بينما عليه هو الاستهلاك غير المسؤول في كل شيء كما هي الحال في الكويت.

ان الوعي في استخدام المقتنيات والسلع اساس القناعة الفردية، لا يعني ذلك البخل، انما الوعي باستخدام المتوفر في تنمية الذات، فالفرد عندنا يريد مثلا ان يأخذ من اوروبا كل ما له علاقة بالرفاهية، لكنه لا يريد البحث كيف يوظف الاوروبي رفاهيته باستمرار في ضمان الحياة الافضل، ويريد ان يأخذ من منتوجات العصر كل ما هو حديث من دون ان يدري لماذا وجدت هذه السلعة او الاداة، انما تكديسها وفسادها وعدم استخدامها بالوجهة الصحيحة.

مثلا عندما يبني الكويتي منزله على كامل مساحة القسيمة، ولا يترك له منتفسا، كحديقة او ما شابه، ويكون ليس بحاجة الى كامل تلك المساحات، فانها يستهلك كهرباء وماء وحتى الطرق كمواقف لسياراته العديدة، ولكنه لا يدفع فواتير الكهرباء والماء، رغم انها تكون زهيدة حتى يصل الامر الى تراكمها لتصبح بالالاف ثم نجده اذا طولب بالدفع بدأ البحث عن «واسطة» لاعفائه من الدفع، بل الضغط على النواب من اجل سن قانون لاسقاط تلك الفواتير، ولان النواب ايضا هم من هذا المجتمع الاستهلاكي وبسبب غياب برامجهم التنموية والتطويرية للمجتمع يسارعون الى تبني هذه المطالبات الغريبة، وبالتالي يساعدون على هدر المال العام وترسيخ نمط الاستهلاك غير المسؤول والعبثي في المجتمع، فنصل في نهاية المطاف الى مزيد من تجهيل الفرد في واجباته الوطنية، بينما يعتبر ان ما ليس حقا له، او ما اخذه عنوة هو من الحقوق.

الوعي الفردي في الاستهلاك وتوظيف الاداة او السلعة في المسار الصحيح هو الذي يؤسس لمجتمع منتج ومسؤول، وللاسف ان كل ما يطرح اليوم لا علاقة له بهذا الشأن، لذلك فان تغيير السلوك الفردي اقتصاديا سيحتاج الى سنوات عدة، هذا اذا توفرت الظروف المساعدة على ذلك، اما في ظروفنا الحالية التي تبنى على مفهوم تعميق السلوك الاستهلاكي فاننا لن نصل الى معالجة جذرية سليمة لواقعنا المشوه الذي يهدد بخطر كبير، وربما هنا علينا ان ندرك لماذا كتبت السفيرة الاميركية السابقة في الكويت ان الكويت مهددة بالزوال في العام 2020 اذا استمرت على هذا النحو من السلوك الاستهلاكي والانفاق العبثي، والسعي الى بناء الثروات الفردية بهذا الشكل البشع الذي نراه اليوم.

النهار

تعليقات

اكتب تعليقك