عبد اللطيف بن نخي يكتب.. مانديلا والمصالحة الكويتية

زاوية الكتاب

كتب 832 مشاهدات 0

عبد اللطيف بن نخي

الجريدة

رؤية ورأي- مانديلا والمصالحة الكويتية

د. عبد اللطيف بن نخي

 

يعتبر نيلسون مانديلا من أبرز الشخصيات السياسية الأفريقية وأكثرها تقديرا على المستوى العالمي، ليس لأنه خلف والده في رئاسة قبيلته منذ صغره، بل بسبب جهوده المتميزة خلال مرحلتين مهمتين من حياته: مرحلة النضال ضد نظام الفصل العنصري، ومرحلة قيادة مسيرة تحول النظام السياسي في بلاده من حكم الأقلية بنظام الفصل العنصري إلى الديموقراطية متعددة الثقافات. فبالرغم من استمرار الصراعات العرقية والعنصرية في بلاده لعدة سنوات، استطاع أن يطبق منهجية جريئة للمصالحة الوطنية، هيئت بدورها في بناء نظام ديموقراطي، أسسه مانديلا وتحقق من صموده قبل أن يعتزل السياسة.

برز اسم مانديلا المعادي لسياسة التمييز العنصري عند طرده من كلية فورت هاري في عام 1940 بسبب مشاركته مع مجموعة من الطلبة في احتجاجات ضد نظام الفصل العنصري. وبعد أن أكمل دراسته بالمراسلة في جامعة جوهانسبرغ وحصوله على ليسانس الحقوق، حرم من الوظائف الحكومية بسبب انضمامه في عام 1942 إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي المعارض لسياسة التمييز العنصري. مما دفعه بعد سنوات من المعاناة إلى إنشاء أول مكتب محاماة لذوي البشرة السوداء في بلاده، وكان ذلك في عام 1952.

بعد أحداث «شاريفيل» في سنة 1960 التي خلفت المئات من القتلى والجرحى بين صفوف المتظاهرين، تبنى مانديلا ورفاقه المقاومة المسلحة. فاعتقل في عام 1962 وحكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات، وبعد ذلك بعامين تمت إدانته بالتحريض على القتال المسلح، وحكم عليه بالسجن المؤبد.

خلال سنوات سجنه الطويلة، لم يتراجع مانديلا عن مبادئه وعقيدته السياسية، ورفض جميع عروض الافراج عنه مقابل تخليه عن المقاومة والعودة إلى قبيلته والبقاء فيها. هذا الصمود المبدئي حوله إلى رمز دولي للكفاح ضد العنصرية، فخضعت الحكومة للضغوط الدولية واضطرت إلى اطلاق سراحه في عام 1990، أي بعد قضائه 27 سنة في السجن.

وأما مرحلة الحرية، فقد بدأها باعتبار الكفاح المسلح خطئا ارتكبته المعارضة وأعلن وقفها، ثم قاد مفاوضات مع رئيس جنوب افريقيا دي كليرك للقضاء على التمييز العنصري وفق منهجيته التي لخصها في كتابه بقوله: «عندما خرجت من السجن كانت مهمتي تتمثل في تحرير الظالم والمظلوم معا». وبشكل متزامن نجح بالتعاون مع الرئيس في اصدار دستور جديد تعددي، مهد الطريق لإجراء أول انتخابات ديموقراطية في عام 1994، انتخب فيها مانديلا رئيسا.

وكانت أول انجازات الرئيس مانديلا اصدار قانون ترويج الوحدة والمصالحة الوطنية، الذي أنتج لجنة الحقيقة والمصالحة التي تعتبر من العلامات الفارقة في مسيرة التحول إلى الديموقراطية في جنوب أفريقيا. حيث فُوضت اللجنة - التي تضمنت كوكبة من الشخصيات المعروفة بالنزاهة والمقبولة لدى جميع اطياف المجتمع- للاستماع إلى شهادات واعترافات طرفي قضايا انتهاك حقوق الانسان، وتحديد امكانية وكيفية إعادة أهلية مرتكبي الانتهاكات، ومنح العفو للبعض منهم، وتحديد التعويضات للضحايا وأسرهم. وكان لهذه الجلسات خاصة العلنية منها الأثر البالغ في ردم الهوة الاجتماعية بين الأقلية البيضاء والأغلبية السوداء في جنوب افريقيا.

واستمر مانديلا في قيادة قطار الديموقراطية بالتضحيات، وتمثلت تضحيته التالية في امتناعه عن الترشيح لفترة رئاسية ثانية. وسلم قيادة القطار بعد أن تأكد من متانته وسلامة طريقه. واعتزل السياسة وانشغل بالأعمال الخيرية من خلال مؤسسة مانديلا لمكافحة الايدز وصندوق مانديلا للطفولة.

لا أدعي أن مسيرة العفو والتسامح والمصالحة الوطنية والتحول إلى الديموقراطية في جنوب أفريقيا كانت خالية من الشوائب والسلبيات، ولكنها بكل تأكيد مليئة بالعبر والدروس. ولكنني سأكتفي هنا بطرح ثلاث جزئيات منها. الأولى هي أن مشاريع المصالحة الوطنية وما تتضمنها من عفو وتسامح دائما تقدم من قبل السلطة، سواء كانت سلطة سائدة كما في المملكة المغربية أو معارضة وصلت أخيرا إلى السلطة كما في جنوب أفريقيا. وأما المعارضة فيفترض أنها تتبع القنوات السلمية في فضح الممارسات المغلوطة من قبل سلطات الدولة، وهذا الطريق عادة يتطلب من المعارضة تقديم تضحيات.

الجزئية الثانية تكمن في أن مشاريع المصالحة مشروطة مسبقا بقبول أطياف المجتمع وبموافقة أطراف العمل السياسي. لذلك أناشد المعارضة أن تعد مشروعا متكاملا للمصالحة يلبي تطلعات المجتمع بشرائحه ويراعي هواجس السلطة وفي مقدمتها حماية سيادة القانون. فالمصالحة مشروع وطني مشترك لا يمكن فرضه من قبل طرف كما هو الحال في مشاريع الاصلاح. لذلك أدعو المعارضة إلى التوقف عن تقديم حلول فئوية كمقترح قانون العفو الخاص عن رموزها، والعمل من أجل اعداد مقترح وطني من خلال لجنة تشكل من حكماء الكويت النزيهين المنزهين من آفة الفئوية، القادرين على تسمية الأشياء بأسمائها ووضعها في مواضعها وإن كانت مخالفة لرغبة السلطة أو لرأي الأغلبية، من أمثال الدكتورين ابراهيم الحمود وعبيد الوسمي.

وأما الجزئية الثالثة فهي مرتبطة بتعزيز الديموقراطية والتعددية والحريات وترسيخ العدالة والمساواة ومكافحة التمييز والفساد، من أجل منع تكرار ذات الاحتقانات والاضطرابات السياسية. لذلك أدعو المعارضة إلى تقديم ما لديها من مشاريع حول الجزئية الثالثة مع التأكيد على محور الحريات الدينية. فالمصالحة الوطنية كل لا يتجزأ، والعفو الشامل أو الخاص المقترح من قبل بعض النواب ليس إلا جزءا بسيطا من المصالحة العامة. لذلك أخشى أن المصالحة المجتزأة المطروحة اليوم على الساحة الكويتية ليست إلا طلبا لحصانة البعض... «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه».

 

الراي

تعليقات

اكتب تعليقك