محمد الرميحي و تصفير العداد الذي لا يُصَفَّر

زاوية الكتاب

د. محمد الرميحي 413 مشاهدات 0


يلتئم مجلس الأمة في الكويت في دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي السادس عشر، وهو تكريس لسنوات طويلة من ممارسة "الديموقراطية الانتخابية". لكن كغيرها من المجتمعات ضُربت الكويت بالجائحة العالمية كوفيد-19. وفي خضم الارتباك العالمي والمحلي للاستجابة إليها خضعت الإدارة العامة للكثير من النقد، بعضه بسبب اختلاط الخوف بعدم اليقين من الجمهور، وبعضه الآخر يحمل طابع المزايدة السياسية. وخلال أكثر من سنة استجابت الدولة الكويتية للتحدي، أولاً بالمساعدة في إحضار أكثر من أربعين ألف مسافر من بقاع الدنيا وتحضير أماكن الحجز الموقت لهم، ثم وضع برنامج زمني للخروج من الجائحة، كان آخره الأسبوع الماضي بإعلان الدخول الى المرحلة الخامسة والأخيرة. المراقب يرى أن الكثير من النقد الذي انطلق في البداية تحول مؤخراً الى إعجاب، فلم تكن الدولة قد بخلت مادياً ومعنوياً في الاستجابة إلى ذلك الخطر العالمي، وكمثل من خرج من أزمة خانقة استقر الامتنان وزالت المخاوف. إلا أن تصفير العداد السياسي ما زال في مراحل التوقع والتمني وربما القلق. نعم فقد صاحب الجائحة واحدة أخرى سياسية مقلقة للمواطن العادي، فجرت انتخابات، "يسميها البعض انتخابات سنة كورونا" في فضاء سياسي مربك ... وفاة الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد وتسلّم أمير دفة الإمارة، الشيخ نواف الأحمد وحضور إدارة جديدة.



كل ذلك على خلفية أحداث سياسية يرى البعض أنها نتيجة كل ما أصاب المنطقة من "زلزال سياسي" في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين. انتخابات الكويت 2021 أفرزت مجموعة أو أكثرية من النواب افترضوا أنهم أمام إدارة جديدة وأنها ربما تكون أكثر استجابة لمطالب يحملها بعضهم، وهنا بدأ التأزيم الذي عطّل العمل البرلماني وكذلك التنفيذي في وقت صعب وبطريقة حرجة. قاد الأمر كله الى دعوة من الأمير بفتح حوار وطني، لكن لم تسلم الفكرة أيضاً من النقد، ويظهر أن ذلك الحوار قاد أولاً الى نتائج حتى الآن لم تظهر على السطح، كما قاد ثانياً الى اختلاف في صفوف الأغلبية البرلمانية السابقة. حقيقة الأمر أن استخدام مفهومي "الأغلبية" و"الأقلية" في الفضاء السياسي الكويتي استخدام "سائل" إن صح التعبير، فهي تتغير بحسب الرؤي و الأمزجة والكثير من المصالح.



يعيب كثيرون من أهل الرأي في الكويت أن الضجة السياسية التي شاعت في جل العام الماضي واربكت العمل العام وهي من أجل ما عرف بـ"العفو" عمّن صدرت بحقهم أحكام اعتبرها البعض "مسيّسة"، قد حان الوقت لإعادة النظر فيها، وأن الأجدى أن يصل الجميع الى مكان تحمله المقولة الشعبية "لا يموت الذئب ولا تفني الغنم" وهو الأقرب الى الحكمة، إلا أن الجهد الذي بُذل لم يرضِ البعض وربما يستمر في التأزيم في جو سياسي لم تعد أغلبية الشعب الكويتي تطيق استمراره. لقد خلخلت الجائحة النظام الاقتصادي واضطرت الدولة الى ربط الأحزمة، وأصبح من الأولويات أن يُنظر الى طائفة واسعة من السياسات "ما بعد الكورونية" من أجل تعويم الاقتصاد والإبقاء على الطبقة الوسطى الكويتية بعيدة من التأكل، حيث كانت هي المتضررة الأكبر، فالجزء المبادر منها (أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة) دفعت ثمناً باهظاً إبان الجائحة من خلال تعطيل أعمالها، أما الأغلبية (أصحاب الدخول الثابتة) فقد تضررت بسبب ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وبالتالي فإن دخل الطبقة الوسطى الكويتية كما يرى بعض الاقتصاديين قد تراجع ما بين 20 الى 30 في المئة من مستوى ما قبل الجائحة. كما أن السيولة المالية للدولة قد شحت، فقد كانت تكلفة الجائحة والعبور منها الى بر الأمان مكلفة للميزانية العامة، إلى جانب الارتفاع العالمي لأسعار السلع المصنعة وأسعار النقل.



لذلك، فإن العودة الى التأزيم في الدور الثاني من الفصل التشريعي السادس عشر الذي افتتح أمس، سوف يجعل من أغلبية الجمهور الكويتي في حال من السأم، وربما تتسع قاعدة الرفض الجماهيري لذلك التأزيم، لأنه يتجاهل أولويات المجتمع المُلحة. الخيار في هذه الحالة هو فقدان آخر آمال الجمهور للوصول الى الإصلاح. ما تغير، وأحسب أنه تغيّر في الكثير من البلاد، أنه اثناء الجائحة نشط كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي، بل أصبح هناك صناعة، على الأقل في الكويت، يمكن أن تسمى "صناعة النكد" سقفها عالٍ وفي بعضه غير مسؤول، فكل من لا يعجبه سلوك أية إدارة في الدولة أو أي خبر قد لا يكون صحيحاً يصب جام غضبه على المسؤول الكبير، بل أصبح البعض يخاطب رئيس الوزراء مباشرة، وكأن في يده عصا موسى، وكأن ليس في البلاد قوانين وأنظمة، وفوق ذلك توفّر ميزانيات لتنفيذ ما يُطلب إن صح قانوناً.



صناعة النكد مبنية على نقص في المعلومات من جهة وأنانية مفرطة لتنفيذ المطالب من جهة أخرى، حتى سمعنا على سبيل المثال من يدعو علناً لتظاهرة (رفض اللقاحات) وهي منطقياً وضعت من أجل حماية المجتمع وأصلاً هي طوعية! صناعة النكد في بعضها تبدو أنها "الرفض من أجل الرفض" والتلهي بما هو جانبي وغير ضروري، من دون التفات الى الأهم كالخدمات الصحية التي تبين للمجتمعات أهمية تجويدها أو الالتفات الى التعليم بمستوياته المختلفة والأهمية القصوى لتجويده وترقيته، فقد كان أحد أهم دورس الجائحة هو مستوى الوعي الاجتماعي، كما أنها أظهرت بوضوح أهمية رأس المال البشري، والذي سوف تُركن اليه المجتمعات ما بعد الجائحة كونه الرافعة الأساس لأي تنمية مستدامة، إلى جانب تجويد الإدارة العامة والدخول الى عصر الرقمنة وفوائدها للتنمية.



هذه الملفات لم يلتفت إليها أي من أهل التشريع، والنخب الكويتية تطالب بها. ما ظهر أمام الناس ليس غير المناكفة والشجار. تصفير العداد إذاً يحتاج الى جهود الجميع وبخاصة أبناء السلطة التشريعية والتي تؤهلها النصوص الدستورية ذات المساحة الواسعة الى العمل العام إن أرادت. المؤسف أن البعض يأخذ المجتمع الى المصالح الخاصة وبالتالي فإن العدّاد وإن بدا انه صُفر، فقد لا يصفّر!


تعليقات

اكتب تعليقك