بن طفلة يكتب عن حوار الحضارات في زمن أوباما:

محليات وبرلمان

انقطاع الحوار مصنع الطغاة والحوار أصبح قيمة في عالم اليوم كالصدق والخير والحب وغيرها

2604 مشاهدات 0


في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، قدم الدكتور سعد بن طفلة العجمي (ناشر والأكاديمي الإعلامي) ورقة عنوانها 'الولايات المتحدة وحوار الحضارات في مرحلة مختلفة'، مقدمة للدورة الثانية عشرة لمؤسسة عبدالعزيز البابطين- 'دورة مطران وماك د.ار'، وقد قرأ الورقة بالنيابة عنه زميلته بجامعة الكويت والكاتبة الدكتورة هيله المكيمي وذلك لعدم حضور الدكتور بن طفلة للندوة لارتباطات مسبقة. تتناول الورقة الحوار الحضاري ومفاهيم الحوار ومعناه والفرق بينه وبين الكلام وكيف أن انقطاعه حتى داخل البيت يخلق أطفالا مترددين غير واثقين بأنفيهم، وبأن انقطاعه داخل المجتمعات يصنع الطغاة والقمع.

الدكتورة هيله المكيمي

وننشر الورقة أدناه لأهمية مسألة الحوار بدلا من انقطاعه، وخاصة أننا أحوج ما نكون له في منطقة متوترة بالطائفية وبانقطاع الحوار.

  

الولايات المتحدة وحوار الحضارات في مرحلة مختلفة

ورقة مقدمة للدورة الثانية عشرة لمؤسسة عبدالعزيز البابطين

'دورة مطران وماك د.ار'

سراييفو- 2010

 

 

الأستاذ عبدالعزيز الباطين

 



 

 

المحتويات:

-     مقدمة...........

-     تمهيد نظري......

-     الحوار والحرية والتكافوء.....

-     صراع الحضارات وحوار الحضارات

-     الولايات المتحدة وحرية الحوار: (المكارثية وقانون الوطنية)

-     أنواع الحوار.

-   بديل الحوار.

- الحوار الذاتي أولا: نقد الذات.

-     حروبنا وانعدام الحوار.

-     خاتمة.

 


 


 

 

-     مقدمة:

مع البدء بكتابة هذه الورقة، منحت الهيئة المنظمة لجائزة نوبل الجائزة في السلام للرئيس الأمريكي باراك أوباما، ولم يمض على تسلمه للرئاسة سوى بضعة أشهر، وكان الإعلان عن منح الجائزة للرئيس الأمريكي مؤشرا على أن الأجواء العالمية تعيش حالة مختلفة مما سبقها طيلة فترة رئاسة الرئيس السابق جورج بوش الابن. بعض المراقبين قالوا بأن منح الرئيس الأمريكي هذه الجائزة دخل ضمن المجاملات السياسية لأنه لا يستحقها أو ربما لم يستحقها بعد، وبعضهم قال بأن منح الجائزة جاء تشجيعا للرئيس الأمريكي أوباما ليمضي في تنفيذ وعوده التي قطعها أثناء فترة الانتخابات للرئاسة قبل الوصول إلى البيت الأبيض، فقد أطلق الرئيس الأمريكي خلال الحملة الرئاسية وعودا بإغلاق معتقل غوانتانامو السيء الصيت قبل نهاية العام 2009م، كما أطلق كلاما جديدا في خطبته الشهيرة بجامعة القاهرة في يونيو العام 2009 طالب فيه إسرائيل بوقف بناء المستوطنات في القدس والضفة الغربية، ودعا إلى الحوار مع إيران، والانسحاب من العراق، والقضاء على 'الإرهاب' في أفغانستان.

 

 

 تمهيد نظري:

 الحوار كلام في معناه الظاهري، ولكن كلمة الحوار DIALOGUE كلمة اكتسبت معنى أعمق من الكلام-بل وأدق من معنى الحوار التقليدي. فلقد كانت مدلولات كلمة الحوار التقليدية تفترض طرفين: متحدث ومستمع وبالعكس، حيث يتحول المستمع إلى متحدث، والمتحدث إلى مستمع، ومن مدلولاتها أنها تجري بشكل منظم، وبأن الأجواء التي تسودها أجواء سلمية.

  والحوار –كأحد معاني الكلام التقليدي- يعتبر غريزة لكل إنسان سوي بدنيا وعقليا، وقد جادل أبو اللغويات الحديثة –ناعوم تشومسكي- [1] بعضوية اللغة واعتبارها كأي عضو آخر من أعضاء الجسم، ينمو ويكبر ويموت.

  أما كلمة الحوار حديثا فقد أخذت أبعادا غير تقليدية في معناها، فاستخدامها الحديث جاء في إطار دعوة 'حوار الحضارات' التي اطلقها الرئيس الإيراني محمد خاتمي ردا على نظرية صامويل هنتنغتون 'صدام الحضارات' والتي سنتطرق لها لاحقا. نقول أن المعنى الحديث لكلمة 'حوار' يتجاوز المعنى التقليدي للكلمة، فهو معنى أشمل وأعم من مسألة الكلام والاستماع، فكلمة الحوار اليوم أصبحت تضم من ضمن معانيها الحديثة معنى الشمولية والعالمية والبعد الحضاري.

 تستمد الفكرة- أية فكرة- كينونتها من خروجها للعلن، فلا فكرة يمكن أن تكون لدى إنسان ما لم تخرج ويتم نقاشها والموافقة عليها أو رفضها أو التعديل عليها. إدراك الأشياء بأحاسيسنا هو ما يعطيها وجودها، وكما قال الفيلسوف الأيرلندي- جورج بيركلي: لو سقطت شجرة بالغابة، ولم يكن أحد بقربها، أي لم يشاهد وقوعها أو يسمع صوت ارتطامها بالأرض أحد، فهل أصدرت تلك الشجرة حين وقوعها صوتا؟

فحل مشكلة ما لا يمكن أن يتم لو لم يطرح اقتراح مسموع أو مكتوب لحل تلك المشكلة، والفكرة ليس لها وجود ما لم تظهر للعلن كي يتفق معها من يتفق، ويختلف معها من يختلف، ويقترح لها أو عليها من يقترح.

 إذن، الحوار باب الفكرة، والفكرة لا وجود لها ما لم تمر عبر بوابة الحوار والنطق والتصريح بها، والحرية مفتاح تلك البوابة التي تمر من خلالها الأفكار، فلا باب مفتوح دون حرية تدير قُفْله، ولا مرور عبرها إلا بحراسة الحرية والأمان على حياة مطلق تلك الفكرة. والفكرة تكتسب أهميتها وتتطور من ردود الأفعال عليها، فلا أهمية لفكرة لا ردود عليها أو لها، ولا فكرة يمكن أن تتطور في ظل الخوف وعدم القدرة على مناقشتها والاختلاف معها.

 هكذا إذن هي ركائز الحوار: علنية وحرية وردود Openness, Freedom, and Response.

 

الحوار والحرية والتكافوء:

 

 غياب الحرية يصنع الطغاة، وانعدام الحرية يقتل الفكرة، فالفكرة كالنبتة التي تحتاج الهواء والماء وأشعة الشمس لعملية البناء الضوئي، والحرية للفكرة بمثابة الهواء للنبتة، وأشعة الشمس ونورها تمثل الشفافية والمعلومة، بينما يمثل الآخر الهواء والاكسجين المتمم لعملية البناء الضوئي. هذه مقومات الحياة للفكرة: حرية وشفافية وآخر يتفق أو يختلف أو حتى يستمع فقط للفكرة. فلا فكرة بلا حرية، فالخائف يعمل على قمع تفكيره قمعا ذاتيا، ولا فكرة دون معرفة وتعليم ووصول إلى معلومة، ولا يمكن لفكرة ما أن تولد إلا بحضور وشهادة الآخر.

 إذا، ترتبط الحرية بالحوار مع الآخر. فلا حاجة للحرية الفكرية إن كانت محصورة فقط بمن يفكر، فقول ديكارت 'أنا أفكر إذن أنا موجود' يتطلب إضافة: 'أنا أفكر، وهناك من يستمع لفكرتي، إذن أنا موجود'.

 لا حوار بلا حرية، فالخائف متردد في التعبير عن تفكيره، والخائف يتلعثم في الكلام، وبالتالي يخونه التعبير الأسلم عن فكرته. فالطفل الذي يقمع منذ صغره، ويوقف عن الكلام والتعبير عن خلجات نفسه في طفولته، ينشأ طفل متردد مهزوز وغير طليق في التعبير عن كوامنه وأفكاره، ويعزي كثير من علماء النفس مرض التأتأة اللغوي لدى المصابين به بالقمع الذي تعرضوا له في طفولتهم. والمجتمع الذي يسوده الخوف والقمع، مجتمع يفتقد إلى الحوار والصدق والمصارحة، ويعيش أكذوبة كبيرة بتجاهل الواقع ورسم صور عن ذلك الواقع لا تعكس الحقيقة ولا تترجم المشهد الحقيقي لأحوال ذلك المجتمع.

كما أن التكافوء مطلب أساس في معادلة الحوار، فالخائف لا يحاور الحر، والمتردد لا يحاور الواثق، والثقافة التي يسوها القمع والخوف والتردد لا يمكن أن تكون ندا في الحوار لثقافة عمادها حرية التفكير والتعبير، وتسودها الديمقراطية والحرية. فلا حرية في غياب العدالة بين متحاور وآخر، ولا 'حديث' بين أصم أبكم كفيف،  وبين طليق لسان مبصر وحاد السمع.

 

صراع الحضارات، وحوار الحضاراتCLASH OF CIVILIZATIONS AND INTERCIVILIZATIONS’ DIALOGUE :

 

  الحضارات لا تتصارع، فالبشر هم الذين يتصارعون، فهناك رياضة المصارعة الحرة، والمصارعة الرومانية تعود إلى قديم الزمان، وهناك مصارعة تسمى- زورا- رياضة مصارعة الثيران، لكن التاريخ لم يسجل لنا صراعا حضاريا بمفهوم التصادم كما أسماه صاموئيل هنتنغتون في كتابه 'تصادم الحضارات'    CLASH OF CIVILIZATIONS وتم تداوله بالأدبيات العربية بمعنى 'صراع' وهي ترجمة غير دقيقة لعنوان أطروحة هنتنغتون، فالأسلم أن تترجم 'تصادم الحضارات'. لكن الحضارات لا تتصادم أيضا، فالتصادم يتم بين السيارات والقطارات والسفن والنجوم السيارة، لكن الحضارة لا تصطدم بحضارة أخرى.، أن السلام والمفاوضات هي خيار استراتيجي لحل الصراع العربي-الإسرائيلي، إلا أن هذا الموقف والدعوة للحوار يجابهها رفض من الطرف الآخر واستمرار آخر احتلال بالقوة في العالم اليوم على الرغم من مخالفة هذا الاحتلال للقانون الدولي، فالمجتمع الدولي يرى في احتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية احتلالا غير شرعي ومرفوض طبقا للشرائع الدولية، ومع هذا تستمر إسرائيل في سياسة الاحتلال في الوقت الذي تنادي فيه بالحوار مع الفلسطينيين!.. . وقراءة للآيات الثلاث أعلاه يمكن أن تكون قراءة سببية لتفسير المعنى: لأن الله لا يريدنا ان نكون أمة واحدة، ولأن مشيئة الله اقتضت ألا يؤمن الناس جميعا...وهكذا.، . لكن الله يؤكد في آية أخرى أن المحاسبة بالمعصية والكفر إنما هي مسئولية ربانية فقط: 'فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر'، وهنا يخلي الرب مسئولية البشر من محاسبة بعضهم البعض في حالة أن يتولى بعضهم أو يكفر، فإن حسابه وعقابه عند الله سبحانه وحده.. وهو ما فسره المفسرون على أنه يعني أن لكل أمة خصائصها الثقافية والدينية واللغوية واللهجوية والتاريخية.ولكن ثقافة المعرفة والتسامح تلك تعرضت لانتكاسة قبل ألف عام بسيطرة الفكر الواحد وإلغاء كل من يختلف مع ذلك الفكر وتصفية فكره بل وجسده لسيادة نوع واحد من الفكر ومدرسة واحدة لا تقبل بالآخر وهي المدرسة الغالبة في ثقافتنا حتى اليوم وإن بأشكال مختفلة.[1] Chomsky, Noam (1957), Syntactic Structures, The Hague/Paris: Mouton. 

إذن الحضارات لا تتصارع، وهذه حقيقة، ولكن الحقيقة أيضا أن الحضارات لا تتحاور، ولا تتحدث ولا تتكلم، ولا توجد فصيلة من المخلوقات لها القدرة على الحوار سوى البشر، حيث لا قدرة في مملكة الحيوانات والمخلوقات جميعا على الحوار سوى المخلوق البشري.

 معلوم أن لكل فصيلة من المخلوقات لغتها- أو بنحو أدق- وسيلتها للتواصل فيما بينها، لكن لغة التواصل بين المخلوقات دافعها البقاء وتلبية الحاجات الأساسية الغريزية، بينما يتفاهم البشر بالكلام، ويتواصلون كمجموعات بالحوار- والأخيرة كلمة أعمق معنى وأشمل فحوى من كلمة اللغة التي نتواصل بها.

 إذن،  فالحوار صفة لصيقة بالبشر الذين يتكلمون اللغة التي لا يجيدها أي من الكائنات الأخرى.

  لكن الحضارات تتلاقى وتتلاقح وتتفاعل وتتراكم وتزداد وتتطور وتتقدم بفعل فاعل واحد فقط هو الإنسان. فالإرادة للحوار إرادة إنسانية، وملكة الحوار ملكة إنسانية حصرا، وإذا ما قرر الإنسان الحوار، فإنه يقدم الفكرة للآخر، ويستلم في مقابلها فكرة الآخر وهكذا دواليك.

 وإذا ما عرّفنا الحضارة بأنها مجموعة من القيم والمعارف والعلوم والعادات والتقاليد والخبرات المتراكمة لدى مجموعة من البشر تعيش في منطقة جغرافية محددة على امتداد فترة طويلة من الزمن، فإن القيم والمعارف والعلوم لا تتحاور، لكن التعرف على الآخرين وحضاراتهم هو المتاح والممكن، وهو الأمر الذي أصبح سهلا مقارنة مع كانت عليه وسائل معرفة أخبار الحضارات والشعوب في الماضي. ففي الماضي السحيق، كان الرحالة أرشيف الحضارات، وكانت القوافل التجارية ساعي البريد الذي ينقل أخبار الشعوب وحضاراتها ومعارفها.

 أما في عالم اليوم، فلم تعد المعرفة والعلوم حكرا على أحد دون غيره، ويمكن التعرف على حضارة ومعارف وعلوم الآخرين دون جهد جهيد، فثورة المعلومات اختصرت المسافات، وجعلت من المعارف أمرا يسيرا وسهلا في متناول يد الجميع. وأصبح الحصول على المعلومة مسألة ضرورية وهامة، حتى أن دولا-كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرهما- سنّت قوانين بحق الفرد في الحصول على المعلومة والأرقام والمؤشرات الحكومية وسمي قانون Access to Information Act. وأصبح البحث عن المعلومة من خلال محركات البحث Search Engines جزءا من حياة الإنسان المتصل بتكنولوجيا المعلومات والانترنت، حتى أن جيل الشباب الناطق باللغة العربية الحديثة اشتق فعلا من محرك البحث الأشهر 'جوجل'، فيقولون 'راح أجوجلها'= أي سأبحث عنها في محرك البحث جوجل.

 إذن أصبح الحصول على المعلومة بأي من اللغات الحديثة الحية مسألة أزرار عبر جهاز الحاسوب، بل إن هناك نقاش يسود أوساط حقوق الإنسان العالمية بضرورة تعديل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليشمل حق الإنسان في الحصول والوصول إلى المعلومة من خلال حق الحصول على خدمة الانترنت لكل مواطن 'كوني' GLOBAL CITIZEN.

 وأصبحت هذه الطريقة البحثية المعاصرة عنصر توحيد يجمع الجيل الشاب من اليابان شرقا، وحتى كاليفورنيا غربا مرورا بالعالم العربي والإسلامي وأوروبا وأفريقيا. وأصبح الشباب جميعا يتواصلون ويتحاورون ويتحركون عبر رسائل نصية رقمية، وأصبحت قضايا البيئة والحرية والتضامن مع المنكوبين والمعتقلين والمتظاهرين، مسائل يتم متابعتها عبر الفيس بوك والتويتر والسكايب وغيرها. وأصبحت الاحداث والحوادث التي تجري ويمنع تغطيتها عبر وسائل الإعلام، متاحة للمتابعة المسموعة والمرئية والرقمية عبر وسائط الاتصال الحديثة التي لم تبلغ ثورتها قمتها بعد.

 وقد سجل العام الماضي لنا مثالا صارخا على هذه القدرة على التواصل بين الناس بمختلف مواقعهم وبلدانهم، فحين قامت السلطات الإيرانية بمنع مراسلي الصحف والوكالات والتلفزيونات والإذاعات من نقل أحداث المظاهرات الشعبية المعارضة لانتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، استطاع المعارضون لهذا الإجراء نقل المظاهرات وما تعرضت له من قمع دام بالصورة والصوت والفضل في ذلك يعود لوسائط نقل الأحداث الحديثة- الفيس بوك والتويتر.

 كما تنادت البشرية بعد زلزال هايتي في يناير الماضي، وما تلى الكارثة من انقطاع في وسائل الاتصال التقليدية، لكن المأساة بأبعادها تم تسجيلها وتصويرها عبر الأقمار الصناعية لتبين للعالم كله أبعاد الكارثة، مما قاد إلى تضامن أممي وإنساني محمود.

الولايات المتحدة وحرية الحوار: (المكارثية وقانون الوطنية)

 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع اشتداد الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، أصدر الكونغرس الأمريكي قانونا يسمى قانون 'اللاأمريكي' UNAMERICAN ACT، ونسبت المرحلة التي امتدت من نهاية الأربعينيات وحتى نهاية الخمسينيات بالمرحلة الماكرثية نسبة إلى عضو الكونغرس اليميني المتشدد السناتور جوزيف مكارثي فسميت بالمرحلة 'المكارثية'، وقد كان فحوى قانون اللاأمريكي هو أن من شروط المواطنة والوطنية الأمريكية أن تكون معاديا بالطبيعة للاشتراكية والشيوعية والاتحاد السوفييتي. وكان القانون خرقا فاضحا للدستور الأمريكي ولمبادئ الليبرالية الديمقراطية LIBERAL DEMOCRACY، والممارسة التي تمت تحت مظلة هذا القانون ترقى إلى ممارسة الدولة البوليسية، حيث اعتقل مفكرون وكتاب وفنانون وأكاديميون وساسة بحجة عدم وطنيتهم وميولهم الاشتراكية واليسارية.

 وبعد شهر من اعتداءات سبتمبر الإرهابية في 11 سبتمبر 2001_ وتحديدا يوم 24 أكتوبر من العام نفسه، أقر الكونغرس الأمريكي على عجالة قانون 'الوطنية'  THE PATRIOT ACT، وهو نسخة محدّثة في جوهره من قانون المكارثية أو ما يسمى بقانون اللاأمريكية، حيث أعطى للسلطات الحكومية الأمريكية الحق في اعتقال المشتبه بهم بصلات إرهابية دون توجيه تهم لهم، والحق في التلصص والتجسس على مكالمات وبريد وخصوصيات من تعتقد أن خطر على الأمن القومي للولايات المتحدة. ولا يختلف اثنان على أن قانون 'الوطنية' هو نسخة حديثة لقانون 'اللاأمريكية' المكارثي، ويعد خرقا لمبادئ الدستور الأمريكي ولحقوق الإنسان الأساسية. وإذا كانت الإدارة الأمريكية السابقة قد سوغت لتمرير القانون بالضرورة الوطنية ومحاربة الإرهاب ولمدة محددة، فإن المحير أنه تم تمديد العمل بقانون الوطنية في فبراير الماضي بأغلبية ساحقة على الرغم من أن الديمقراطيين- حزب الرئيس أوباما- هم غالبية أعضاء الكونغرس، كما لم ينل مثل هذا الأمر نقاشا موسعا في الولايات المتحدة على مستوى الصحافة والإعلام الأمريكي الفاعل، ولا يزال الجدل والمناداة بإسقاطه حبيسا في أبراج بعض المثقفين الفكرية.

كما بقي معتقل غوانتانامو وقت كتابة هذا الورقة (مارس 2010) يحوي مئات من المعتقلين الذين لم يقدموا للمحاكمة ولم تحدد لهم تهما بعينها. كانت إحدى الوعود التي طرحها الرئيس باراك أوباما أثناء حملته الانتخابية إغلاق معتقل غوانتانامو الشهير نهاية العام الماضي 2009م، ولا زال المعتقل قائما.

في يوم وصول نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط في التاسع من آذار الماضي لتحريك عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أعلنت إسرائيل بناء 1600 مستوطنة في مدينة القدس رغم الخطاب والموقف الأمريكي المعلن الذي أطلقه الرئيس أوباما في يونيو 2009 في جامعة القاهرة بضرورة وقف بناء المستوطنات في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلة. وهو إجراء قابله رفض عالمي وإعلان فلسطيني بوقف المفاوضات غير المباشرة مع الطرف الإسرائيلي، وهو موقف يصعب تغييره ما لم تتغير المعطيات على الأرض.

 ومع إعلان الجانب العربي وتكراره أكثر من مرة

  لقد شكلت الإجراءات الأمنية الأمريكية في العقد الماضي انعكاسا لحالة الهلع التي خلفتها هجمات سبتمبر عام 2001، والهلِع الخائف لا يفكر بالحوار قدر ما يفكر بالمجابهة أو الهرب لتلافيها. إن أجواء الخوف والهلع التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب على الإرهاب التي امتدت منذ هجمات سبتمبر وحتى وصول الرئيس أوباما إلى البيت الابيض واستمرت عقدا من الزمان، شحنت الاجواء العالمية المنادية بالحوار بأجواء من الشك والريبة والتوتر، وقطعت جسورا للنقاش كان يمكن أن تخلق أجواء أكثر عقلانية وتخدم السلم العالمي.

أنواع الحوار:

أرى في هذه الورقة تقسيم الحوار إلى ثلاثة أنواع:

1.  الحوار المعرفي. 2. الحوار الفوقي. 3. الحوار العبثي.

1.  الحوار المعرفي:

(رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) 'الإمام الشافعي'.

وهو حوار بين طرفين يقصد منه التعرف على وجهات نظر كل منهما، ومثل هذا الحوار مفيد من حيث أنه يخلق أجواء من الثقة بين الأطراف المتحاورة، ويقدم وجهة كل طرف للطرف الآخر. ومن مقومات مثل هذا الحوار أن يكون قد تمت تهيئته مسبقا بالحاجة إلى التعرف ومعرفة بما يمثله الآخر من وجهة نظر، لا أن يأتي طرف وهو معبأ بوهم امتلاك الحقيقة ومحاولة إقناع الطرف الآخر بها. ومثل هذا الحوار يتم غالبا بين مجاميع مثقفة وواعية لأهمية الحوار، ويفترض كل طرف فيه أن الآخر لم يأت ليعظه ويعلّمه، وإنما ليعرض عليه وجهة نظره وموقفه.

2. الحوار الفوقي:

 وهو حوار أقرب ما يكون إلى استسلام طرف لطرف آخر، بعد أن فرض الأول سياسة أمر واقع على الآخر تقبلها بالقوة، ولعل خير مثال على هذا النوع من الحوار هو الدعوات لسياسة الحوار الفلسطيني-الإسرائيلي في ظل موازين القوى المختل كليا لصالح إسرائيل، ومعطيات على الأرض لن يستطيع الحوار وحده أن يغيرها. حيث تمارس الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا- وإن بدرجة أقل- سياسة ضغط على الفلسطينيين بضرورة الاستمرار بمحادثات سلام مع الإسرائيليين. ولكن أسس هذا الحوار غير متوفرة، فإسرائيل تحتل أرض الفلسطينيين، وتصادر أراضيهم، وتعزلهم بجدار فصل عنصري، وتستمر في بناء المستوطنات على أرضهم، ومستمرة في تحويل مدينة القدس إلى مدينة يهودية خالصة بانتزاع أراضي الفلسطينيين، وتسكين يهود مستوطنين فيها بدلا منهم، ومستمرة في الاعتقالات العشوائية لآلاف الفلسطينيين حيث تعتقل اليوم أكثر من عشرة آلاف فلسطيني دون محاكمة، وهذا يعني أن قبول الفلسطينيين الاستمرار في الحوار مع الإسرائيليين إنما هو إضفاء شرعية على سياسة التهويد، وإعطاء صك شرعي لهذه السياسة، وموافقة ضمنية على ما تقوم به إسرائيل، وفي مثل هذه الحالة يكون الهدف من الحوار غير معرفي، ولا يهدف للتعرف على وجهة نظر الآخر، ولكنه هدف سياسي يتجاوز الأهداف المعرفية النبيلة للحوار.

 كما يندرج تفكير 'المنقذ' ضمن الحوار الفوقي، فكثيرون من أهل الديانات أو الأيديولوجيات السياسية قد يدخلون في حوار مع طرف آخر وهم يحملون في أذهانهم مواقف مسبّقة: سوف أنقذ هذا الإنسان من جهله وضلاله، وسوف أدخله في دين الحق- أي ديني الذي أؤمن به. والشيء نفسه صحيح بالنسبة لأهل الأيديولوجيات الذين قد يدخلون في حوارات مطوّلة بغية تفسير العالم على أسس مادية لتجنيد الكوادر و'توعية' المتلقي لما يظنون انه الفهم الصحيح لتفسير العالم من حولنا، ويمارسون عملية تسمى غسيل الدماغ (BRAIN WASHING).

 إن أمثلة الحوار هذه يمارسها طرفين بعقليتين مختلفتين: واحدة فوقية، وأخرى متلقية لا تملك- في الغالب- من أمرها الذهني شيئا، وحينها يكون الحوار مبني على أسس غير متكافئة، ولن تكون نتيجتها عادلة أو مفيدة لأي منهما.

 

3 . الحوار العبثي:

 أعتقد أن ما يسمى بالحوار بين الديانات بقصد إقناع طرف للطرف الآخر بصحة وجهة نظره واستقامة دينه إنما هو حوار عبثي، وهو مخالف لفطرة فطر الله الناس عليها وكررها القرآن الكريم في أكثر من موضع، فالاختلاف طبيعة بشرية، وتنوع الأديان والديانات والثقافات إرادة إلهية لا يستطيع البشر مهما حاولوا تغييرها ولو قسرا وبالقوة، فسيبقى دوما من يؤمن بالله وسيوجد أيضا من هم غير ذلك ممن لا يؤمنون بإله أبدا، وسيوجد من يؤمن بالله على دين ما، يخالفه بذلك من يؤمن بالله بطريقة أخرى وهكذا. ففي القرآن الكريم: 'ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين'

 كما أكد القرآن الكريم على تنوع الأمم والثقافات والديانات بقوله في الآية: 'ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة'وحرف 'لو' في الآيتين السابقتين هو حرف امتناع لامتناع، أي أن الله لا يريد أن يكون الناس أمة واحدة، وتلك هي مشيئته، واستمرار اختلافهم جزء من الطبيعة البشرية التي أكدها الله سبحانه في الآية: 'ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين'

 إذن الاختلاف سنة البشرية، وجزء لا يتجزأ من تكوينات المجتمعات الإنسانية، وأية محاولة لتغيير ذلك إنما هو محاولة لتغيير طبيعة وإرادة إلهية. وعليه فإن أي حوار بين الأديان، غالبا ما يقوم به المتدينون، والمتدينون في عصرنا- من كافة الأديان- غالبا ما يظنون أنهم يمتلكون الحقيقة، وكل فريق يظن أنه 'الفرقة الناجية' والبقية هالكون وفي النار خالدون. والدخول في حوار مع من ينطلق من هذا المنطلق إنما هو حوار عقيم لن يقدم أو يؤخر في حقيقة ربانية فرضها الله بالاختلاف وباستمرار هذا الاختلاف حتى يوم الدين.

 كما أن الحوار بين الإيمان والإلحاد حوار عقيم أيضا، فمنذ أن تشكلت المجتمعات البشرية، وبينها من يؤمن بالله ومن هو غير ذلك. وقد أعطى الله هذا الخيار في المعتقد للإنسان بقوله: 'وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر' صحيح أن الله لا يريد للإنسان أن يكفر ففي الآية نفسها يؤكد سبحانه على محاسبة من سيكفر يوم القيامة في الآية نفسها 'إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا'

 لا أرى فائدة حقيقية مما يسمى بالحوار بين الأديان إذا كان هدفها استمالة فريق إلى الفريق الآخر، أو تحويل مؤمنين بدين ما إلى دين طرف الآخر، وذلك لأنه لن يتم ولن يتحول أصحاب دين بشكل كلي إلى دين آخر، وسيبقى تنوع الأديان فطرة بشرية فطر الله الإنسان عليها وليس لتغيير ذلك من سبيل، فالبشر والحضارات تتنوع بفكرها ومناهجها وشرائعها: 'لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا'

 إن الحوار لتغيير أهل دين عن دينهم، هو حوار عبثي، والأسلم أن يدخل أي حوار بين الأديان ضمن النوع الأول من الحوار- أي الحوار المعرفي الذي يتم فيه التعرف بين طرف وآخر استزادة في المعرفة، وترسيخ لأنسنة كل طرف للآخر. إن من شأن مثل هذا الحوار تصحيح  الصور النمطية الخاطئة (stereotypes) ، وتعريف أهل الأديان ببعضهم البعض، وخلق أجواء من التسامح وقبول الآخر لأنه الطريق الوحيد للسلام والتعايش في أي مجتمع كان.

بديل الحوار:

 من البدهي القول أن بديل الحوار هو انعدام الحوار، وانعدام الحوار يؤدي إلى مسألتين بديهيتين أيضا: سوء الفهم والجهل بالآخر وبالتالي يصبح كل طرف عرضة للشائعات والتنميط (stereotyping). إذن الحوار ضرورة معرفية، ومتطلب هام للمعرفة والوعي والإدراك تجاه الآخر. وغالبا ما كانت الحروب تنلدع بعد أن ينفض الحوار، وتقفل أبواب المفاوضات والتفاهمات. فالحوار متطلب أساسي من متطلبات السلام والتعايش –ليس على صعيد الأفراد والجماعات وحسب- وإنما على مستوى الأمم والشعوب وعنصر هام في بناء العلاقات الدولية وتهيئة أجواء السلام العالمي.

الحوار الذاتي أولا-نقد الذات:

 والمقصود بالحوار الذاتي هنا هو الحوار داخل الثقافة أو الدين أو المذهب نفسه، وهو مسألة شرطية التحقيق قبل الانطلاق للآخر والتحاور معه.

 وعلينا في عالمنا العربي والإسلامي أن نطرح تساؤلا حول ثقافة الحوار: هل نحن أمة تتحاور؟ هل تتحاور الأديان في عالمنا؟ هل تتحاور المذاهب والثقافات عندنا؟

 إن الإجابة على هذه التساؤلات تنحصر في ثلاث منطلقات:

منطلق جلد الذات الذي سيجيب بالنفي التام وانعدام الحوار بين فئات عالمنا الإسلامي والعربي المختلفة.

 ومنطلق اليوتوبيا والكمال الذي سيجيب بأن عالمنا هو جنة الحوار، ومنطلق الإنصاف الذي يجيب بأننا أمة فقدت كثيرا من سمات الحوار التي كانت سائدة في ثقافتنا في الماضي، بيد أن هناك إضاءات تراثية رائعة يمكن تسليط الضوء عليها لتكون أولويات ثقافية في نهج الحوار، وأن تكون قبسات نسترشد بها وندلل بها على صفحات ناصعة من تراثنا في مسائل الحوار وتقبل الآخر.

 إن الموضوعية تتطلب أن نقول: لقد ساد في الفكر العربي الإسلامي على مدى العقود الخمس الماضية تقريبا- منهج يلغي الآخر ويقسم العالم إلى دارين تارة، وفسطاطين تارة أخرى، وقسم العالم إلى مسلمين وكفار. وهو فكر انعزالي ضيق سوّقت له قلة بيننا صوتها عال ومرفوع، وإمكاناتها هائلة وعظيمة، ورسمت لنا صورة نمطية هزيلة، ألغت كل ما يمكن أن يستثمر من صور التسامح الثقافي في تراثنا، وركزت على عزل وإلغاء الآخر بخطاب متشدد ومعقد، يصعب على الآخر التفاهم أو التحاور معه.

حروبنا وانعدام الحوار:

-1970 اندلاع الاقتتال الفلسطيني-الأردني بالأردن.

-1975-1990 الحرب الإهلية اللبنانية.

-1975 حرب الصحراء المغربية (المغرب-البوليساريو بدعم الجزائر).

-1975 الحرب العراقية-الكردية.

-1977 الحرب الليبية-المصرية.

-1978-1987 حرب ليبية-تشادية متقطعة.

-1980-1988 الحرب العراقية-الإيرانية.

1981-الحرب بين شمال اليمن وجنوبه.

-1983 اقتتال فلسطيني-فلسطيني بمخيمات لبنان.

-1986 اندلاع القتال الداخلي اليمني الجنوبي.

-1983 اندلاع القتال في جنوب السودان.

-1988 اندلاع القتال الأفغاني-الأفغاني بعد انسحاب القوات السوفييتية.

-1990 احتلال العراق للكويت.

-1990 اندلاع الاقتتال الصومالي حتى اليوم.

-1994 حرب الانفصال والوحدة اليمنية.

-2003 اندلاع القتال في دارفور (ليس هناك اتفاق على البداية الحقيقية لهذه الحرب).

-2004-2007 اقتتال شيعي-سني بالعراق.

-2007 اقتتال شيعي-سني بلبنان.

-2007 اقتتال فلسطيني-فلسطيني بين فتح وحماس بغزة.

-2009 حرب الحوثيين بشمال اليمن.

 إن نظرة على بعض قائمة الحروب التي اندلعت في العالم العربي والإسلامي وتعدادها يقود- بما لا شك فيه- إلى انعدام الحوار بيننا كأمة وكثقافة، لم تستعرض القائمة الحروب التي شنها الآخرون على منطقتنا على اعتبار أن ذلك خارج سياق هذه الورقة، وليست ذات صلة بأهمية الحوار الذاتي، لكن قائمة الحروب التي اندلعت بأيدينا تجعل من الصعب علينا أن نسوق للآخرين دعواتنا- مهما صدقت- للحوار.

 إن ثقافتنا تفتقد للحوار الذاتي، وغياب هذا الحوار غالبا ما يبرر بالتفرغ لحوار الآخر، أو بذريعة أن لا فروقات كبيرة بيننا تستحق الحوار الجاد حولها.

 لقد جرت محاولات – بدت إعلامية في غالبها- لفتح باب الحوار بين المذاهب الإسلامية، لكن تلك الدعوات باءت جميعا بالفشل، لأن كل طرف يذهب للحوار وهو يحمل في عقله موقفا مسبقا من الطرف الآخر، ويحمل في داخله قناعات متحجرة بأنه من 'أهل الفرقة الناجية'، والآخر هالك وضال.

 إن المتابع لبعض الفضائيات الدينية، والمواقع الدينية الانترنتية ليشعر بمدى تغلغل فكر إلغاء الآخر بيننا، ويدرك غياب ثقافة الحوار مع الآخر داخل ثقافتنا وتراثنا السياسي، ناهيك عن قدرتنا على الحوار مع الثقافات الأخرى.

 إن من الإنصاف أن نشير إلى مرحلة سابقة من تاريخ الثقافة الإسلامية ساد فيها الحوار والجدل، ففي عراق القرنين الثاني والثالث الهجري، نشطت مدارس فقهية ولغوية وفلسفية مختلفة، وتحاورت وتجادلت، وانتعشت على أساس تلك المدارس ثقافية ثرية للمعرفة والعلوم والترجمة. كما ساد التعايش بين الأديان والثقافات في حضارة الأندلس، وتجاوز أهل المعرفة والعلم والفلسفة الفروقات الدينية بينهم، وجمع بينهم عنصر الإنسانية بغض النظر عن أديانهم أو لونهم.

إن الأمثلة التي نسوقها من التاريخ ناصعة وجميلة، ولكن التجارب تلك قد مضى عليها وقت طويل، ومسألة تكرارها بنفس مقومات مرحلتها الماضية مستحيلة، وعلينا أن ننظر إلى تراكم التجربة البشرية المتاحة في التعايش والتسامح والحوار.

خاتمة:

 ليس هناك حوار لمجرد الحوار، فالحوار لابد أن يقود إلى نتيجة، لعل أسهل تلك النتائج تحقيقا هو أنسنة بعضنا البعض، والتعرف على بعض ما نملك كشعوب وأمم وثقافات، وإزالة سوء الفهم وتنميط ثقافاتنا بقوالب لا تمت للحقائق بصلة، وهذا هدف معرفي بحت وسهل المنال، لكن الأهم هو أن يقود الحوار بين الثقافات إلى 'التثاقف والتلاقح' الثقافي بيننا، وأن يؤدي في النهاية إلى التعايش السلمي والسلام العالمي الذي أصبح هدفا لكل من ينشد التقدم والاستقرار لهذا العالم.

 إن الحوار العالمي بين مختلف الأمم والشعوب ليس مسألة ترف فكري، ولا هو سياحة فكرية، لكنه قيمة بحد ذاته مرتبط بالعلاقات بين الدول والشعوب، ومكوّن أساس في العلاقات الدولية في قريتنا الكونية.

 على الغرب عموما- والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا- مسئولية تاريخية وأخلاقية كبيرة في مسألة نشر ثقافة الحوار وتأصيل التسامح والتعايش كقيمة، ولا يعني هذا إعفاء الآخرين من هذه المسئولية، لكن 'على قدر أهل العزم تأتي العزائم'، والغرب اليوم هو الذي يتقدم العالم في كافة المجالات، وهو الذي يرفع شعارات اليمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وهو الذي تفرض قوانينه الداخلية مسألة احترام الآخر وضرورة التعايش معه مهما كانت درجة الاختلاف.

 إن من نافل القول أن هناك قوى في عالمنا ترى هذا العالم يضيق بغيرها، وهي قوى منتشرة في كل بقاع الأرض، وتأخذ أشكالا مختلفة من الدين السياسي إلى البدلة العسكرية مرورا بالأيديولوجيات الشمولية والعسكرية، وغالبا ما تستمد هذه القوى مبرراتها وفلسفتها من ترجمتها للثقافة بالطريقة التي تناسب نهجها وسياستها. لكن المنطق يفترض أن هذه القوى تتناقض تناقضا تاما مع غايات السلام العالمي والاستقرار والتعايش البشري، ومهمة التصدي لهذه القوى مهمة جماعية إنسانية، والعبء الأكبر في التصدي لها يقع على كاهل الدول التي تمتلك القدرات الإعلامية والمالية والقانونية- بل والعسكرية إذا تطلب الأمر. وعلى الولايات المتحدة الأمريكية مسئولية أخلاقية وقانونية وتاريخية لمواجهة قوى الانعزال ومحاربة التعايش بوسائلها المتعددة.

 خلاص البشرية وأحلامها بالتعايش والسلام تتطلب تضافر الجهود الثقافية الإنسانية، ونشاط ومواقف المثقفين في كل مكان في العالم لنشر ثقافة الحوار والتعايش والسلم، وهي مسئولية نبيلة، ومهمة أخلاقية ملقاة على عاتقنا جميعا.

 



 

[2] Huntington, Samuel P. The clash of Civilizations and Remaking of World Order. New York, Simon & Schuster 1996.

[3] تجدد هذا الموقف بالقمة العربية ال22 التي عقدت بمدينة سرت الليبية بشهر مارس الماضي

[4] (سورة يونس 99)

[5] (سورة النحل 93)

[6] (سورة هود 118)

[7] (سورة الكهف 29)

[8] الآية نفسها (الكهف 29)

[9] (سورة الغاشية 21-22)

[10] (سورة المائدة 48)

[11] للمزيد حول تلك الحقبة انظر كتابي برنارد لويس:

Lewis, Bernard. “The Middle East: A Brief History of the Last 2000 Years. Scribner, 1996.

Lewis, Bernard. What Went Wrong: Western Impact and Middle Eastern Response. Oxford University Press, 2001.


 

الآن-سراييفو

تعليقات

اكتب تعليقك