أحمد بشارة: ينادي بتعديل الدستور عبر استفتاء عام
زاوية الكتابكتب يونيو 13, 2007, 7:25 ص 518 مشاهدات 0
ما من نظام
سياسي تتوزع فيه السلطات الدستورية الا وهو مرشح لأزمة بين الحين والاخر. هذه طبيعة
النظم الديموقراطية: الاختلاف بين الاطراف على تعريف المصلحة العامة. والامم
الديموقراطية الحية هي التي تضع الآليات لتجاوز الازمات وتحقيق المصلحة العامة بأقل
الاضرار، وعند الحاجة الى الحسم يجب ان تتدخل قمة هرم النظام الدستوري لقول كلمة
الفصل عبر استفتاء الشعب مباشرة لأن الامة (وهي جمهور الناخبين) مصدر السلطات
جميعا. فالبرلمان وفق النظام الديموقراطي ممثل للشعب وليس بديلا عنه. والرجوع الى
الشعب عند الضرورة هو اسمى اشكال الممارسة الديموقراطية. ولعله من المفيد في هذا
المقام استعراض تجارب بعض الدول ذات الديموقراطيات العريقة لندلل على ذلك. في عام
1958 كانت فرنسا التي يحكمها دستور الجمهورية الرابعة منذ 1946 تواجه ازمة سياسية
خانقة، وتتناوبها حكومات ضعيفة وغير مستقرة. وعظمت الازمة تداعيات حربها
الاستعمارية في الجزائر. قرر ديغول ان يفك ارتباط فرنسا بمستعمرتها والدخول في
مفاوضات الاستقلال. لكن البرلمان عارض هذا التوجه بحكم انه (البرلمان) تتمثل فيه
المستعمرات عبر الفرنسيين المقيمين هناك. ووجد ديغول نفسه مقيدا بحكم صلاحيات
الرئيس الدستورية المحدودة، فكيف يخرج فرنسا من الازمة بينما يداه مقيدتان امام
برلمان مستبد؟! لمواجهة هذه الازمة الخانقة قام ديغول بشيء غير مسبوق: اعد دستورا
جديدا يقوي سلطات الرئيس، وطرحه على استفتاء شعبي مباشر. واقر بنسبة 80%. كانت هذه
بداية الجمهورية الخامسة الحالية. وللعلم فقط: فرنسا - ام الديموقراطيات الحديثة في
العالم ومنبع فلسفة الدساتير - جربت 17 دستورا منذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789.
ومنذ اقرار دستور عام 1958 اجرت فرنسا 18 تعديلا عليه، آخرها في بداية العام
الحالي. بل اقدم ديغول على خطوة غير مسبوقة في الدستور الفرنسي، ففي عام 1962 اراد
ديغول ان يكون انتخاب الرئيس انتخابا حرا مباشرا بدلا من كونه من خلال الكلية
الانتخابية المعمول به وفق نص المادة 11 من دستور 1958. وحجته ان ذلك سيقوي سلطة
الرئاسة امام استبداد البرلمان. لم يقبل البرلمان هذا التوجه لأسباب بديهية. فقام
ديغول باستفتاء الناخبين على التعديل، ضاربا بمعارضة المعارضين عرض الحائط، لأنه
رأى مصلحة فرنسا اكبر منهم. واجيز التعديل وتحول النظام الدستوري الفرنسي من
برلماني صرف الى شبه رئاسي. ضج السياسيون على اجراء ديغول واعتبروه 'انقلابا' على
الدستور الذي نص على آلية تعديل مختلفة. وعندما طعن في نتائج الاستفتاء امام
المحكمة الدستورية أيدت المحكمة موقف ديغول. ويتلخص رأي المحكمة بأن الاحتكام الى
الشعب هو ارقى انواع الديموقراطية، ويجب البرلمان. فالاصل الديموقراطي هو ارادة
الشعب التي لا يعلوها اي ارادة. وما دام الاستفتاء قد عبر عن رأي الناخبين فهو
سليم. في بريطانيا لا توجد وثيقة فريدة ومكتوبة كدساتير الدول الديموقراطية الاخرى،
انما هناك مجموعة واسعة من القوانين والاحكام الاساسية التي تشكل بمجملها
'البناء' الدستوري البريطاني. ووفق المعمول به فالبرلمان هو الذي يغير هذه
القوانين والاحكام الدستورية وفق ما يراه من مصلحة للبلاد. فالسيادة للبرلمان.
والحكومة النابعة من اغلبية البرلمان 'مصهورة' فيه، لذلك تسمى هذه الحالة
'الدكتاتورية المنتخبة'. رغم هذا الحق المطلق التمست الحكومة عام 1975 رأي
الناخبين حول عضوية بلادهم في الاتحاد الاوروبي. لم تلتفت الى البرلمان الذي يملك
الحق المطلق. وكان ذلك اول استفتاء عام في تاريخ الديموقراطية البريطانية. وكانت
النية اجراء استفتاء آخر عام 2005 على الدستور الاوروبي لكن صرف النظر عن بعد نتائج
استفتاءات فرنسا وهولندا. لجأت الحكومة البريطانية الى الاستفتاء - رغم عدم حاجتها
الدستورية اليه - ايمانا منها بأهمية مشاركة الشعب في خطوة مصيرية كتلك. ولم يعترض
البرلمان على خطوة الحكومة رغم كونها غير مسبوقة من الناحية الدستورية على الاطلاق.
لا ينص الدستور الفدرالي الاميركي على الاستفتاء، لكنه حق يمارسه الناخبون في 24 من
50 ولاية وفق دساتيرها المستقلة. حق الناخبين في هذه الولايات يمتد من رفض او تعديل
قوانين الولايات التي تقرها برلماناتها. بل يمتد هذا الحق الى تجاوز الناخبين
برلماناتهم بالتصويت المباشر على القوانين والمقترحات المعطلة او المخالفة لمواقف
نوابهم. وفي بعض الاحيان يلجأ الناخبون الى عزل ممثليهم في البرلمان او حاكم
الولاية عبر الاستفتاء العام! حق استفتاء الناخبين مباشرة لحسم الامور المختلف
عليها يمارس في العديد من الدول مثل: ايطاليا واسبانيا والسويد وسويسرا وكندا
واستراليا، رغم وجود برلمانات مستقرة وعريقة. بل وبعد وفاة فرانكو عام 1976 كان
الدستور القائم عائقا للتغيير والتطوير الديموقراطي المنشود. فأقدمت الحكومة
الاسبانية على استفتاء الشعب على النظام السياسي برمته! فتحولت البلاد من نظام
دستوري يؤصل الدكتاتورية الى مملكة ديموقراطية برلمانية. هذا بعض من فيض النماذج
التي تتعامل فيها الدول الديموقراطية العريقة المختلفة مع اوضاعها السياسية
المتأزمة، او عندما يدب الخلاف المعطل للمصالح العامة، حتى في وجود برلمانات منتخبة
دستوريا.
القبس
تعليقات