هل تعود الأموال التي نهبها الرؤساء المخلوعين إلى أصحابها الشرعيين؟ يتسائل الدكتور ماجد منيمنة

الاقتصاد الآن

1120 مشاهدات 0

بن علي ومبارك

أطلق كل من الأمم المتحدة والبنك الدولي مبادرة تسعى إلى مساعدة حكومات الدول النامية والمجالس الانتقالية لاستعادة الأموال المسروقة التي نقلها الحكام السابقون والمخلوعون إلى خارج البلاد ووضعوها في المصارف الأجنبية بحسابتهم الشخصية• كما تهدف هذه المبادرة إلى تشجيع الدول على إعادة الأموال المنهوبة التي قدرتها المنظمتان بنحو ثلاثة تريليونات دولار أميركي ومساعدة هذه الدول على استثمارها في برامج اجتماعية ومشاريع لمكافحة الفقر• كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إن هذه المبادرة ستعزز التعاون الضروري بين الدول المتطورة والدولة النامية وبين القطاعين العام والخاص للعمل بشكل يمكن معه إعادة الأموال المنهوبة إلى أصحابها الشرعيين• وأكد رئيس البنك الدولي أنه لن يكون هناك ملاذ آمن لمن يسرقون مال الشعب، كما اعتبر هذه المبادرة بمثابة إنذار موجه إلى القادة الفاسدين بأنهم لن يفلتوا من مخالب القانون الدولي• والمعروف أن الفساد في الدول الأفريقية يلتهم سنويا نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي بما يبلغ نحو 148 مليار دولار بينها 20 إلى 40 ملياراً رشىً تدفع للمسؤولين من أجل صفقات ومشاريع مشبوهة تنفذ بمواصفات رديئة•
كما يُقدّر البنك الدولي أن ما بين 1 تريليون دولار و1.6 تريليون دولار يجري تهريبها عبر الحدود سنوياً من عائدات أنشطة إجرامية وفساد وتهرب ضريبي• ويقدر البنك أن كل 100 مليون دولار تتم استعادتها يمكن أن تموّل علاجا لأكثر من 600 ألف مصاب بفيروس الإيدز، أو أن توفر لـ100 مليون شخص دواء لعلاج الملاريا، أو إمداد مياه الشرب لـ 205 ملايين شخص• وتواجه الدول النامية حتى الآن مشاكل قانونية وغيرها في ما يتعلق باستعادة مثل هذه الأموال من الدول الأجنبية• فقد استغرقت الفلبين 18 عاماً في سعيها لاستعادة 624 مليون دولار كانت تخص حاكمها السابق فرديناند ماركوس من حسابه المصرفي في سويسرا• وأنهت نيجيريا العام الماضي معركة استمرت عشر سنوات لاستعادة 500 مليون دولار وضعها الدكتاتور ساني أباتشا في أحد بنوك سويسرا باسمه الشخصي• ويعتقد أن أباتشا اختلس ما يصل إلى 5 مليارات دولار من خزينة مالية نيجيريا في 4 سنوات فقط•??
والمعروف أن للغرب لغة خاصة في التعامل مع الأحداث والوقائع لمواجهة التطورات• وتستند هذه اللغة إلى منظومة قيم غير ثابتة وهي قابلة للتحرك في جميع الاتجاهات بما في ذلك الاتجاه المعاكس• وبالنسبة للغرب وفي ما خص السياسة بالتحديد، فليس هنالك من ثابت، حتى ولو أن عقيداً عسكرياً قد وصل إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري، وتعرض لسنين طويلة إلى حصار خانق، فإن البراغماتية تحتم بالنسبة للغرب بأن يتحوّل هذا الرئيس إلى حمل وديع تتهافت عليه ذئاب الاستثمارات عند الحاجة، حتى أنك سوف ترى مسؤولا غربيا يقبّل يده من أجل المصلحة العامة الغربية• ورغم هذا كلّه، وبنفس البراغماتية الغربية التي قد تتغير 180 درجة ليطلق هذا الفريق نفسه العنان لطائراته الحربية الفتاكة لتمطر سماء ليبيا بآلاف القنابل والصواريخ بحثاً عن عدو اليوم الذي كان صديق الأمس•
إن تاريخ الكفاح الوطني للشعوب المقهورة المسلوبة المنهوبة، لن تنسى مبادراتها الأولى في استعادة ثرواتها وأموالها المنهوبة، وخصوصاً مبادرة محمد مصدق بتأميم بترول إيران في بداية خمسينات القرن الماضي، ومبادرة جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس عام 1956، وأخيراً مبادرة روبرت موغابي في تأميم المزارع الهائلة في زامبيا واستعادتها من أيدي المستعمرين الأوروبيين وتمليكها للفقراء•
?لقد هاجمت الدوائر الغربية وعملاؤها المحليون، هذه المبادرات الوطنية الهادفة لإيقاف نهب الثروات الوطنية واستثمارها بالطريقة الشرعية لإفادة الاقتصاد الوطني ودعم خصائصه المشروعة، إلا أنها عادت اليوم تتحدث عن أساليب أخرى لاستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة من الشعوب، فهل استيقظ ضميرها من غفوته الاستغلالية طويلة الأمد، أم أنها تستخدم القصة عينها وبحلة جديدة وتحت مزاعم الإرهاب وإفزاع الحكام الجدد المتهمين بالفساد والاستبداد، حتى ينضووا تحت جناحها، ووفق شروطها الجديدة؟•
لقد نجح حكام الشرق الأوسط الذين تم الإطاحة بهم في الماضي، أمثال شاه إيران وصدام حسين في العراق، في تهريب مليارات الدولارات المنهوبه من بلادهم للخارج• وفي مقابل هذا، ومن خلال موجة الثورات الحاليه، فأنه من الصعب على الحكام المخلوعين الحفاظ علي أموالهم وسلطتهم وثرواتهم• وقد ذكرت الصحافة الأجنبية، أنه لا تظهر أي علامات تهدئة على موجة الاحتجاجات في العالم العربي• ففي مصر يتم التحقيق حالياً مع الرئيس المخلوع حسني مبارك وولديه، بشأن الاعتداء علي المتظاهرين وقمع الاحتجاجات في القاهرة، بالإضافة لما يتصل بتضخم ثروته بالسنوات القليلة الماضية، والتي قدّرت بـ60 مليار دولار أميركي• أما في سوريا فحالياً يقمع الرئيس السوري الاحتجاجات الشعبيه المتزايدة ضده بيد من حديد، ويتجه حالياً الغرب والعرب لفرض عقوبات اقتصادية ومالية عليه وعلى عائلته والضباط المقرّبين• وفي اليمن وافق الرئيس، علي عبد الله صالح، أن ينقل صلاحياته لنائبه، وها هو حاكم ليبيا، معمر القذافي، يُقتل على أيدي الثوار والمتمردين بمواكبة طائرات وهجمات حلف الناتو•
صحيح أنه حتى اليوم لم ينجح إلا رئيس واحد في الهروب إلى خارج موطنه، وهو رئيس تونس السابق زين العابدين بن علي• ووفقاً للتقارير المالية، لقد نجح بن علي في تهريب مبالغ مالية ضخمة وسبائك ذهب ومجوهرات إلى خارج تونس تقدّر بـ100 مليار دولار أميركي• وقد علمتنا التجارب السابقة في الشرق الأوسط أن الأموال المنهوبة على يد حكام مخلوعين وأسرهم، لا تعود لخزانة الدولة، كأنما لو أنها تبخّرت واختفت آثارها بلا رجعة• ويفعل الحكام الهاربون ذلك بشكل عام بسرعة، ولذلك فهم يحاولون أن يأخذوا معهم بقدر استطاعتهم لكي يكونوا قادرين على الاستمرار في العيش برفاهية في منفاهم، كما اعتادوا سابقاً•
والمثال الأول والأكثر شهرة هو شاه إيران• ففي سنه 1978 قامت ضده أول محاولة للثورة وبعدها حاول أبناء أسرته تهريب 3 مليارات دولار خارج إيران• أما عن صدام حسين، فأنه المثال الثاني للإطاحة بقائد بالشرق الأوسط في سنه 2003• فبعد الإطاحة به ادّعت الحكومة الأميركية أن صدّام وأسرته نهبوا من الشعب العراقي مبالغ تتعدى الـ80 مليار دولار• ووفقا للتقارير التي وصلت من العراق بعد الإطاحة به، كان يصرف له مبلغ 2 مليون دولار نقداً من البنك المركزي التي كانت تصل إلى قصره الرئاسي لتخزن في سراديبه• بالإضافة لهذا، فإن الولايات المتحدة تتهم صدام بأنه تلقى عمولات ناهزت الـ200 مليار دولار من بيع النفط وخرق الاتفاقيات التجارية الدولية• ويذكر أن حكومه بوش قد أقامت فريقاً خاصاً بالتعاون مع بريطانيا لمحاولة تعقب مسار تلك الأموال، لكنها لم تنجح في الوصول إليها• ويقدّر الأخصائيون الماليون في أوروبا أن صدام وأسرته هرّبوا الأموال على مر السنين لحسابات بنكية في الولايات المتحدة، أوروبا ودول أخرى تحت أسماء مستعاره• وأغلب الظن أن بنات صدام، وعلى الأخص ابنته رغد، هي التي تتحكم حالياً في الأموال• ويذكر أنه في الماضي تم اتهام رغد بأنها تموّل عمليات ضد المارينز الأميركي في العراق• إدعاء آخر لا دليل عليه هو أن عدي وقصي (إبنيّ صدّام)، نقلا ثرواتهما للمقرّبين من النظام السوري وبعض المتموّلين اللبنانيين، ولم يعرف مصير تلك الأموال حتى بعد موتهما• كما أن إعدام صدام حسين في عيد الأضحى قبل محاكمته يقابله إعدام معمر القذافي في الصحراء على يد الثوار، ليبقينا على سؤال واحد: بأن الحكام ماتوا أوأعدموا ولكن أين ذهبت أموالهم، فهل أخذوا هذه الأموال معهم إلى قبورهم، أم أن هذا السر دفن بموتهم؟•
إن القيم المتحركة التي تتمثل بها العلاقات الدولية في العالم تستند إلى حماية المصالح قبل المبادئ، والثابت الأساسي فيه هو مصلحة المال والاقتصاد، والامتدادات العسكرية والنفطية والصداقات الرئاسية والعلاقات المتشعبة التي يستحوذ المال والأعمال على الجزء الأكبر فيها•
لذلك وبعد السقوط المتوالي لبعض الأنظمة العربية الشمولية المنغلقة، وبعد بداية انهيار اللاحق من هذه الأنظمة، تقفز حقائق مذهلة إلى واجهة الاهتمام والانشغال، إذ لم يكن أحد في الغرب، من مسؤولين وإعلاميين ومنظمات حقوقية ومجتمعات مدنية، يتكرّم علينا بالحديث عن الأرصدة المالية الخيالية التي تبين الآن أن الحكام غير المأسوف على رحيلهم واللاحقين منهم وطوابير أفراد عائلاتهم ومقربيهم ومعاونيهم يختزنونها في بنوك الدول الغربية، إلى أن وقع الفأس في الرأس ليشعل هذا الغرب بترسانته الإعلامية والحقوقية نقاشاً صاخباً حول عدم شرعية هذ الأموال المخزنة في الأرصدة الشخصية في المصارف الغربية وليسارع إلى تجميد هذه الأرصدة المقدّرة بآلاف ملايين الدولارات• بل، وعلى سبيل المثال، ذهبت بعض البنوك السويسرية بعيداً حينما قررت رفض طلب السلطات التونسية إرجاع ما سماه المجلس الانتقالي التونسي بالأموال المنهوبة، رغم أن هذه البنوك اعترفت في السابق بعدم شرعية هذه الأرصدة وقررت تجميدها•
هكذا هو الغرب، يدير لسانه في عمق حلقه مئة ألف مرة قبل أن ينطق بحرف واحد في قضية تمس مصالحه المالية والاستراتيجية والمؤسساتية، ولكنه بالمقابل يقبل بأن يودع الحكام الفاسدون أموالاً طائلة في بنوكه، ويسارع إلى تجميدها بعد سقوطهم، بما يؤكد الاعتراف باهتزازه في تعاطيه مع قيم النزاهة والأخلاق، لكنه يرفض أن يصحح ما كان خطأ من خلال إقدامه على فتح نقاش جاد مع الجهات المعنية لإعادة الأموال إلى أصحابها الشرعيين•
ولذلك فإن هذا الغرب موضوع محل إدانة، وإننا نشك بأنه متواطئ مع حكوماته بقبول أموال لم تتحر عن مصادرها، واتضح الآن أنها مشبوهة، وبعدم التبليغ عن جرائم مالية قد وقعت، كما تبين أن البنوك الغربية تواطأت في عمليات تهريب مالي للحكام والرؤساء• إن رفض كثير من البنوك الغربية إرجاع الأموال المنهوبة أو المشتبه فيها لحكام وأقرباء وحاشية تؤكد اليوم بشكل غير قابل للشك فساد أدائها والتآمر للإفادة منها أو الاستيلاء عليها بصورة عامة• وهذا لا يعني إلا شيئاً واحداً ولا يجد إلا تفسيراً أوحد، إن هذه الحكومات ومصارفها ترفض كل هذا خوفاً من أن تفقد ثقة ناهبي الأموال الذين لا يزالون يمارسون وينشطون بل وقد يكون البعض منهم في أوج نشاطه، وتتخوف الأوساط المالية الغربية أن تهتز ثقتهم في مصارفها التي لا يملك أحد غير الله معلومات عن طبيعة وهوية الأرصدة المفتوحة بها ومصادر هذه الأموال•
إننا ندرك قبل هذه الأوساط المالية الغربية أن الذي يُهرّب سنتاً واحداً من بلده إلى الخارج، وتحديداً إلى المصارف الغربية التي تطمئن أوساط التهريب المالي إلى الاستقرار السياسي السائد فيها، يفعل ذلك لأنه إما سارق لهذه الأموال أو خائف عليها من أوضاع سياسية في وطنه الأم وهو غير مستعد تماماً للمساهمة من موقعه الرسمي في ضمان شروط تحسينها، أو مستغلا في انتهازية فاضحة عدم الاستقرار في السياسة المحلية لتربو ثروته أضعافاً وأضعافاً على ظهر شعبه•
وهذا يعني أن غياب الديمقراطية وآلياتها في المحاسبة والشفافية والمصارحة والمساءلة، تركت شعوبنا أسيرة لتحالف الفقر والقهر مع الفساد والاستبداد، بينما تسربت الثروات الوطنية عينياً ومالياً، إلى بنوك الغرب لتستثمر فيه آمنة ولمصالح شخصية، ولا تستثمر في أرضها وتحرم شعوبها الفقيرة المقهورة ولا تتحرك قيد انملة لإرساء قواعد الأمن الاجتماعي• إن مبادرة البنك الدولي الجديدة، الهادفة لاستعادة الأموال المنهوبة، وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين من ملاذاتها الآمنة بالغرب، هي مبادرة نشجعها وهي تبشر بالأمل للشعوب المحتاجة والفقيرة، لو استمرت جادة مستقيمة متحررة من ضغوط الحكومات الغربية، ومن ضغوط الحكام الجدّد، الذين سوف يستلمون زمام الأمور، ومع الأمل بأن لا يتحوّلوا هم كذلك إلى مهربين لثروات شعوبهم!!•

صحيفة اللواء اللبنانيه

تعليقات

اكتب تعليقك