هل غيرت حركات الاحتجاج النظريات الاقتصادية ؟ يتساءل عبدالعزيز العويشق
الاقتصاد الآنديسمبر 6, 2011, 11:14 ص 458 مشاهدات 0
يعارض علماء الاقتصاد التقليديون التدخل الحكومي الهادف إلى تحسين توزيع الدخل أو الثروة بين المواطنين، ويرون ذلك مضراً بالكفاءة الاقتصادية، ولكن حركات الاحتجاج الشبابية تدفع الاقتصاديين إلى مراجعة تلك المسلّمات
تتحدث حركات الاحتجاج التي اجتاحت االعالم، من حركات 'الربيع العربي' إلى حركات 'احتلوا وول ستريت' وغيرها، عن غياب العدالة الاجتماعية، وعدم تكافؤ الفرص بين الفقراء والأغنياء، وسوء توزيع الثروة. وتجد في هذه الحركات إجماعاً على أنه تحت النظام الاقتصادي القائم في تلك الدول ازداد الأغنياء غنى فاحشاً، في حين ازداد غيرهم فقراً.
وقد انبرى بعض الصحفيين وعلماء الاقتصاد المتعاطفين مع تلك الحركات لتقديم الأدلة على صحة هذه المقولة. فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة يشيرون إلى أن معدلات البطالة ارتفعت إلى مستويات لم تشهدها منذ 'الكساد العظيم' في الثلاثينات من القرن الماضي، أما أجور من يحصلون على عمل فقد انخفضت قيمتها الحقيقية. وفي الوقت نفسه، ارتفعت أرباح الشركات، ومخصصات ورواتب رؤسائها بنسب لم يسبق لها مثيل. فاليوم تبلغ مخصصات رئيس الشركة الأميركية في المتوسط نحو (350) ضعف راتب الموظف العادي، مقارنة بنسبة لم تكن تتجاوز (50) ضعفاً في عام 1985.
وهذه كانت حقائق معروفة منذ بعض الوقت، كما هو معروف أن توزيع الدخل في معظم الدول ليس 'عادلاً'، بل إنه يزداد انحرافاً عن العدل، وثمة وسائل عديدة لقياس هذه الحقيقة.
ومنذ نشأة علم الاقتصاد كانت تجاذبته مدارس مختلفة، بين من ينادي بالتدخل الحكومي لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وبين من يعارض ذلك. ومنذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، رجحت كفة التوجه الثاني، وأصبح علماء الاقتصاد يحثون صانعي السياسة على عدم التدخل لمحاولة جعل توزيع الدخل أو الثروة أكثر 'عدلاً'، لأن ذلك سيأتي بنتائج وخيمة على الاقتصاد. واشتهر في هذا المجال العالم الاقتصادي 'آرثر أوكن' الذي ألف كتاباً اشتهر في حينه بعنوان 'المقايضة الكبرى' أو The Big Tradeoff. ووفقاً لنظريته، فإن السياسات التي تسعى لتحقيق توزيع أكثر عدالة للدخل، مثل الضريبة التصاعدية والحد الأدنى للأجور، ستؤدي إلى تخفيض الكفاءة الاقتصادية لأنها تقلل من الحافز على العمل وعلى الإنتاج وتؤثر سلباً على المنافسة، فضلاً عن أنها سياسات مكلفة بسبب الأجهزة الحكومية التي يتطلبه تنفيذها.
وكان لـ (أوكن) دور ملموس في تطبيق نظريته والمساهمة في صناعة السياسة الاقتصادية في واشنطن من خلال عمله في 'مؤسسة بروكينجز'، المركز البحثي كبير التأثير في واشنطن. وأصبحت هذه المقولات سائدة في بعض المنظمات الاقتصادية الدولية، التي دفعت الدول النامية دفعاً إلى تطبيقها.
ولكن حركات الاحتجاج الشبابية تدفع اليوم علماء الاقتصاد إلى مراجعة أنفسهم، على مايبدو. فقد لفت نظري أن أحد أكبر علماء الاقتصاد خرج الأسبوع الماضي بمقال يعارض فيه تلك المقولات، إذ نشر الاقتصادي المعروف كينيث آرو، مقالاً يقدم الأدلة، والتدليل النظري، على صحة مطالبات حركات الاحتجاج، وينقض النظرية التقليدية التي أشرتُ إليها. والبروفسور (آرو) أحد أشهر الاقتصاديين في العالم، وحاصل على جائزة نوبل عام 1972. وهو وقد تجاوز التسعين من عمره، ليس راديكالياً متطرفاً، بل يعتبر من الوسط الليبرالي. وفي مقالته الهادئة يشير إلى أن المكاسب الاقتصادية التي تم تحقيقها في الولايات المتحدة منذ عام 1985 قد ذهبت إلى حفنة صغيرة من الأغنياء، لا يتجاوزون واحداً في المئة (1%) من الشعب، أما الباقون فلم يستفيدوا كثيراً من تلك المكاسب، بل هم من دفع الثمن.
ويشير (آرو) إلى قطاعين على وجه الخصوص استفادا من النمو الاقتصادي على حساب المواطن العادي: القطاع المالي والقطاع الصحي غير الحكومي. ويقول إن السبب في أن هذين القطاعين على وجه التحديد نجحا في تحقيق مكاسب غير عادية، على حساب عملائهما، هو أنهما يتميزان بالقدرة على السيطرة على المعلومات التي تتعلق بعملهما. ففي حالة 'المعرفة غير المتوازنة'، كما يسميها، فإن من يملك المعلومة ويستطيع حجبها عن الآخرين، يمكنه أن يُضعف المنافسة لأن المستهلك لا يملك من المعرفة ما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب.
ولعلك لاحظت صحة ذلك عندما تزور بعض المؤسسات المالية، إذ قلما تستطيع الحصول على معلومات كاملة مفهومة، أو مكتوبة، عن تفاصيل الخدمة التي تقدمها. وبالمثل في القطاع الصحي، يمتلك مقدم الخدمة كل المعلومات تقريباً، ويضطر المريض إلى اتخاذ قراره دون توفر المعلومات الكافية لذلك، وهو غالباً ما يكون ضمن خيارات محدودة قُرّرت سلفاً.
وعدم التوازن في هذين القطاعين هو ما يفسر، في رأي (آرو)، كونهما مستفيدين رئيسيين من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة.
وبذلك فإن آرو يقلب المنطق التقليدي في علم الاقتصاد رأساً على عقب. وانطلاقاً من نظرية آرو، فإن غياب العدالة الاجتماعية هو في الحقيقة ناجم عن انخفاض المنافسة، وإن تعزيزها سيعزز المنافسة وبالتالي يزيد من النمو الاقتصادي.
ولهذا فإن حركات الاحتجاج تستطيع أن تقول بأن العدالة الاجتماعية التي تنادي بها ستعود بالنفع على الاقتصاد، وليست على حساب النمو الاقتصادي، خلافاً لما يقوله معارضوها.
تعليقات