خليل حيدر يكتب: عباس محمود العقاد في تل أبيب!

زاوية الكتاب

كتب 819 مشاهدات 0


الوطن

أفكار وأضواء  /  عباس محمود العقاد.. في تل أبيب!

خليل علي حيدر

 

أُعجب الأديب عباس محمود العقاد بجو ومناخ فلسطين عندما زارها عام 1945، قبيل اشتعال الحرب فيها بعد اعلان دولة اسرائيل! فمناخ فلسطين ينتمي الى البحر المتوسط، بينما مناخ مصر، فيما عدا ساحلها الشمالي، خاضع لنوع آخر.
«قلت لبعض الاخوان الفلسطينيين.. انكم تملكون اختيار الاجواء والاهوية في كل فصل من فصول السنة. نحن في مصر ننتظر ثلاثة اشهر أو اربعة لنشيع الصيف ونستقبل الشتاء، ولكنكم هنا لا تحتاجون الى هذا الانتظار الطويل، لأن ساعة واحدة تنقلكم من حرارة يوليو الى برودة نوفمبر أو يناير، وعندكم المكان الذي يتذكر فيه السمار معاطفهم اذا طالت السهرة كما تطول ابدا في ليالي الربيع. وقد كان الحر هذا العام على اشده في شواطئ البحر الابيض جميعها، فلم نشعر بوطأته حين تركنا الشواطئ وارتفعنا الى هضاب «رام الله» أو «رام إيل» الفيحاء، ولكنني لم أندم على قضاء معظم ايامي في فلسطين بين الشواطئ، لأنني لمست فيها عن كثب ذلك الصراع العنيف الذي أحسبه أعجب صراع بين مدينتين متجاورتين في تاريخ الشرق، وهو الصراع بين مدينة يافا ومدينة تل ابيب».
ولعل هذه الانطباعات التي سطرها العقاد عن المدينتين، آخر النصوص الادبية في كتبنا عن هذا الجزء من فلسطين، قبل التقسيم والاحتلال.
«ان المدينتين متجاورتان تقيمان في مكان واحد، حتى ليبدأ الشارع احيانا في يافا وينتهي في تل ابيب، ولكن السباق بينهما سباق بين اقدم ميناء على شواطئ بحر الروم - البحر المتوسط – واحدث ميناء عليه. كانت «يافا» علما مشهورا في التاريخ القديم قبل نيف وثلاثين قرنا من الزمان، وكانت الاسكندرية جنينا في الغيب يوم كان «سوفوكليسي» و«يوربيدس» وغيرهما من شعراء اليونان يتغنون بجمال يافا. ولا نحسب ان مدينة في الشرق الادنى عرض لها من تعاقب السعود والنحوس ما عرض لمدينة يافا، فعمرت وخربت مرات على ايدي البشر، وعلى ايدي الزلازل والجوائح الطبيعية، وصمدت للعراك بين الدول».
وتمنى الاديب العقاد ان تصمد «يافا» في هذه المرحلة كما صمدت من قبل عبر تاريخها. اذ انها اليوم، كما قال، مصابة في كل مواد دخلها. فالموالح التي عرفت باسمها لا تلقى اليوم نفس الرواج، وصناعة الجلود والصابون فيها مُنيت بالمزاحمين الاقوياء في «تل ابيب» وبلدان اخرى، اما الميناء فقد تراجعت مكانته لصالح ميناء «حيفا» الذي تنتهي اليه انابيب البترول من آبار العراق، أو الى ميناء «تل ابيب»، الذي بناه مجلسها البلدي».
ظهرت تل ابيب عام 1909، وتضاعف عدد سكانها منذ 1920، وتحولت الى مركز مالي وتجاري وصناعي، للمنسوجات والاغذية المحفوظة والاجهزة الكهربائية. وقد ضمت اليها «يافا»، كما تقول المراجع، عام 1950، بعد عامين من اختيارها عاصمة لاسرائيل.
ويحنو العقاد على مدينة «يافا»، فيقول في مقارنتها بتل ابيب ضمن انطباعاته في رحلته الى فلسطين: «الى جانب هذه «الشيخة» الصبور فتاة ماكرة لعوب تتيه عليها بدلال الفتنة وجمال الشباب.. تلك مدينة تل ابيب، حبيبة لم تتجاوز الثانية والعشرين، اذا نظرنا الى مولدها الصحيح في اعقاب الحرب الماضية، ولم تتجاوز السادسة والثلاثين اذا نظرنا الى نشأتها في عهد الدولة العثمانية، ايام كانت هذه الدولة تحب ان تستعين بالدعاية الاسرائيلية - العقاد يستعمل كلمة الاسرائيلية بمعنى اليهودية - في مقاومة روسيا ودويلات البلقان، وكانت روضة للنزهة وقضاء ساعات الاصيل في ايام الصيف والربيع، ولهذا سميت «تل الربيع». يا له من صراع عجيب بين شيخة الامس وفتاة اليوم.. ان مدينة يافا لن تقوى على هذا الصراع العنيف على انفراد». (حياة قلم، عباس محمود العقاد، 1964، ص233 – 239).
تقول بعض المراجع ان مجموعة من اليهود في فلسطين التقت عام 1909 على الساحل الرملي شمالي «يافا»، هربا من حاراتها الضيقة، وقرروا انشاء ضاحية سكنية في ذلك الموقع، فكانت تلك بداية «تل ابيب»، التي امتزجت اليوم بيافا، وصارت المدينتان منذ الخمسينيات ذات ادارة بلدية واحدة، تحت اسم «تل ابيب – يافو» Tel – Aviv Yafa. وتختلف يافا في انها، يقول المرجع، احدى اقدم مدن العالم. وقد تحدث عن تاريخها الكتاب المقدس وكتب اليونان والرومان وغزاة بلاد الشام الفرنجة، فالمدينة ربما كان عمرها اكثر من اربعة آلاف سنة، حيث ذكرت في المخطوطات المصرية القديمة عام 2000 ق.م. ويقال ان «يافث» ابن النبي نوح هو الذي بناها بعد الطوفان، واشتق اسم المدينة من اسمه، وتقول الاساطير اليونانية ان «جوبا»، ابنة ايلوس Aeolus إلهة الريح، هي التي اوجدتها. (Tel – Aviv – Jaffa, E.Carmon, P.5).
أبدى «العقاد» استغرابه من برود الاسرائيليين في مدينة تل ابيب، ولا مبالاتهم حتى بعودتهم الى «ارض الميعاد»! يقول: «اذا عبرت «تل ابيب» رأيت في اكثر اوقات النهار زحاما يملأ جوانب الطرق من اليمين والشمال، وخيل اليك ان القوم منصرفون من محفل أو مقبلون على اجتماع في منعطف الطريق..
لأن حركة المرور لا تنقطع في «تل ابيب» من ساعات الصباح الباكر الى ما بعد العشاء..
ولكنك مع هذا تلاحظ هذا الزحام المتلاحق فتعجب لأنك لا ترى فيه احدا يلوي على احد، ولا تكاد تلمح انسانا يومئ الى انسان آخر بالتحية، الا في العرض النادر الذي يرجع الى محض الاتفاق..
واعجب من ذلك انك تنظر الى القوم فلا ترى على وجوههم ما يدل على السعادة: سعادة الظفر بالامنية الروحية والمطلب التراثي القديم.. فلا تملك ان تسأل نفسك: ما هذا؟ اهؤلاء قوم يهبطون الى ارض الميعاد بعد التفرق في جوانب الارض مئات السنين؟..
وتتخيل المسلمين في عرفات، أو النصارى في معاهد المسيحية المقدسة، فلا ترى على وجوه القوم في «تل ابيب» شيئا من دلائل تلك الاخوة الروحانية التي تفيض على وجوه الحجاج من جميع الاديان». (حياة قلم، ص240).
ان اليهودي الناجح، يضيف الاديب العقاد، في اوروبا وامريكا، لن يهجر وطنه ليستأنف الحياة زارعا أو بائعا في ناحية يجهلها من ارض فلسطين. ذلك ان هذا اليهودي، كما يحلل العقاد مستقبل الاقتصاد والعمالة في اسرائيل، «قد ألف العمل في التجارة والصفقات المالية، ولم يألف العمل في الزراعة وتربية الدواجن وما اليها من اعمال الفلاحة ورعي الحيوان».
ما الذي يدعم الدعوة الصهيونية في اوساط اليهود على صعيد العالم اذن؟ يجيب العقاد: «الذي نعتقده ان «النقلة الصهيونية» هي نقلة مصطنعة عارضة تخلقها تلك العوامل الموقوتة، وينفخ فيها عاملان آخران موقوتان، وهما دعاية الزعماء واضطهاد الطوائف الاسرائيلية في اوروبا الوسطى واوروبا الشرقية.. ولولا هذان العاملان لبقيت الصهيونية حيث كانت املا من آمال الخيال».
هل الاسرائيليون جادون في بناء هذا الوطن الذي شجعتهم الصهيونية على الهجرة اليه؟
يقول العقاد مشككا حتى في هذه: «حماسة الشعوب الاسرائيلية للوطن القومي هي حماسة مصطنعة مبالغ فيها بغير مراء، واقل ما يقال فيها انها ليست بالحماسة الاجتماعية التي تقاوم جميع المصاعب وتذلل جميع العقبات..
وانما قامت الحركة كلها على دعاية الزعماء، وصادفت هذه الدعاية ما صادفته من النجاح لامرين لا مناص منهما للمثابرة على نشاط الحركة واستمرارها..
هذان الامران هما: «اولا» سهولة الحصول على الوطن القومي في اعقاب الحرب الماضية. و«ثانيا» صعوبة المقام في كثير من الاقطار الاوروبية على اليهود، لما كانوا يلقونه هناك من ضروب الحجر والاضطهاد..
فإذا تغير الموقف بعد الحرب العالمية الاخيرة، فصعب المقام في الوطن القومي وسهل المقام في الاقطار الاوروبية بعد زوال الاضطهاد منها وفتح ابوابها لمشروعات التعمير وصفقات التجارة والمال، فقد تنكشف الحركة المصطنعة عن حقيقتها الباقية فإذا هي اضعف من ان تقوى على الثبات الى زمن طويل».
ولم يفت العقاد ان ينظر في مستقبل الاقتصاد الاسرائيلي بعد الحرب العالمية الثانية، والمشاكل التي ستجابهها، وكانت توقعاته لهذا التطور الذي سيجابه بالصعاب كما يلي: «نعم ان الصهيونية تعتمد الآن – بعد القيام في فلسطين زهاء ربع قرن – على عاملين آخرين غير تلك العوامل التي بعثت الحركة من مرقدها في دفعتها الاولى..
تعتمد الآن على الجيل الجديد الذي يولد وينشأ في تل ابيب وما يحيط بها من المستعمرات الاسرائيلية.
وتعتمد كذلك على الصناعات الحديثة التي تأسست في ايام الحرب الاخيرة على الخصوص، واتصلت معاملاتها بأقطار الشرق الادنى وما جاورها من الاقطار.
لكن الجيل الجديد الذي يولد وينشأ في تل ابيب خليط من الاوطان المختلفة لا يمتزج بعضه ببعض في زمن قريب». (ص، 243).
كيف ينبغي لنا التعامل مع القضية الفلسطينية؟ وبم نصح «العقاد» الفلسطينيين والعرب؟
«كنت اقول لاخواننا الفلسطينيين كلما سألوني عن رأيي في قضية بلادهم وقضية البلاد العربية: انني متفائل قوي التفاؤل عظيم الرجاء في مصير البلاد الشرقية على الاجمال..
فلا فائدة من تعظيم خطر الصهيونية والارتفاع به الى ما وراء طاقة الجهود البشرية..
ولكن لا فائدة كذلك من تهوين هذا الخطر اذا لم يقترن تهوينه بالشروع في العمل المفيد..
ولا غنى للبلاد العربية على اية حال – لخدمة نفسها لا لخدمة القضية الفلسطينية وكفى – من تنظيم الصناعات الحديثة، وتنظيم الاسواق في وجه المعاملات الطارئة عليها، ومن منع الاحتكار في ايدي فريق من الناس كائنا ما كان..».
ونترك للقراء تقييم رؤى وتنبؤات الاديب الكبير عن الدولة اليهودية، التي لم تكن قد أعلنت بعد.. يومذاك. ولم يكن اليهود انفسهم مجمعين على تأييد انشائها. يقول العقاد: «ظهرت في الايام الاخيرة مذكرات اللورد «هربرت صمويل» الذي كان اول مندوب سام على فلسطين من قبل الدولة البريطانية..
وهو سياسي فيلسوف ينتمي الى اسرة اسرائيلية كبيرة في البلاد الانجليزية، ويتكلم بكثير من الصراحة عن موقف زعماء اليهود من الدعوة الصهيونية عند ظهورها واشتدادها في اعقاب الحرب الماضية. ومن هذه المذكرات يتبين لنا ان ثلاثة من عظماء اليهود الانجليز الذين شاورتهم الحكومة البريطانية في اعلان الوطن القومي بفلسطين كانوا معارضين لاعلانه متشائمين من عقباه، وعلى رأسهم «ادوين منتاجو» الذي كان وزيرا للهند في وزارة لويد جورج الائتلافية..».

الوطن

تعليقات

اكتب تعليقك