رشيد الخيّون يكتب: الحَجُّ.. عبادة فما شأن السِّياسة!

زاوية الكتاب

كتب 388 مشاهدات 0


مرت عصور خوالٍ، وحوادث جسام، والكعبة المشرفة مكانها، يطوف حولها الطَّائفون، الحجَّاج والمعتمرون، قبل الإسلام وبعده، وهو الرَّمز الوحيد الذي يجتمع حوله مسلمو العالم، ومِن شتى المذاهب، وكلُّ يُصلي بهيئة صلاته، سابلاً يديه أو ضامهما، ويؤدي الشَّعائر حسب فقهه أو فروعه. معلوم أن الحَجَّ ليس عبادةً فقط، بل حتى للأدب والفكر وجود. فهذا شيخ المعتزلة أبو بكر الإخشيد (ت 326هـ) يقول: «دخلتُ مكة حرسها الله تعالى حاجاً أقمت منادياً بعرفات، والنَّاس حضور من الآفاق على اختلاف بلدانهم وتنازح أوطانهم، وتباين قبائلهم وأجناسهم من المشرق إلى المغرب، ومن مهب الشِّمال إلى مَهب الجنوب، وهو المنظر الذي لا يشابهه منظر: رحم الله من دلنا على كتاب الفرق بين النَّبي والمتنبئ لأبي عثمان الجاحظ، على أي وجه كان» (الحموي، معجم الأدباء).

إلا السِّياسة، واستغلال المناسبة لشأنها، لا تترك هذه الجموع مؤتلفة، يتعارف بعضها على بعض، وكانت البداية أن رُفعت رايات متنازعة سياسياً في ما بينها، عندما «وقفت في سنة ثمانٍ وستين بعرفات أربعةُ ألوية: ابن الحنفية في أصحابه في لواء قام عند جبل المُشاة، وابن الزُّبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم... ونجدة الحروري خلفهما، ولواء بني أُمية عن يسارهما» (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).

ولسبب سياسي منع عبد الملك بن مروان (ت 86هـ) «أهل الشَّام مِن الحَجِّ، وذلك أن ابن الزُّبير كان يأخذهم إذا حَجّوا بالبيعة، فلما رأى عبدالملك ذلك منعهم مِن الخروج إلى مكَّة، فضج النَّاس، وقالوا: تمنعنا بيت الله الحرام، وهو فرض مِن الله علينا!». فقال لهم هذا ابن شهاب الزُّهري يحدثكم أن رسول الله قال: لا تُشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصَّخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها، لما صعد إلى السَّماء، تقوم لكم مقام الكعبة، وبنى على الصَّخرة قبة» (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي).

مع كل الخلافات السِّياسية الحادة، والمواجهات المسلحة، بين الأمويين بالأندلس والعباسيين ببغداد والفاطميون بمصر، لم يمنع حُكام هذه الدُّول النَّاس مِن الحَجِّ، غير أن الحُكام أنفسهم لم يحجَّوا، بل كانوا يُقدمون الخدمات ويبعثون رؤساء على الحجَّاج، ويساهمون بإعمار طريق الحَجّ مِن بلدانهم، ففي كتابه «الذَّهب المسبوك في ذِكر مَن حجَّ مِن الخلفاء والملوك» (صنفه 841هـ) يذكر تقي الدِّين المقريزي (ت 845هـ) أسماء وظروف حجِّ الخلفاء والملوك، ولم نجد بينهم سوى القلة الذين لبّوا الفريضة، وذلك لأسباب عديدة، منها الخلاف الحاد، عندما يكون الحجاز تحت حكم واحدة منها، أو بسبب انشغال في الحرب كصلاح الدِّين الأيوبي (ت 589هـ)، لكن ظل الحَجُّ مفتوحاً للناس مِن الممالك كافة، وحينما سيطر الفاطميون على الحجاز أخذ العباسيون، لتسهيل الحج العراقي وأصقاع الخلافة، أناطوا رئاسته بالحُسين بن موسى (ت 400هـ)، والد الشَّريفين الرَّضي والمرتضى، لسنوات طويلة لعلويته ومنزلته. كذلك لم يحج السلاطين العثمانيون ولا الشَّاهات الصَّفويون، لكنهم لم يمنعوا الحجيجَّ مِن ديارهم.

غير أن أسوأ ما سببته السِّياسة، والخلافات الحزبية المتشعبة، كان في عام 317هـ، عندما تجرأ قرامطة البحرين وقلعوا الحجر الأسود مِن مكانه وحملوه معهم، وعبثوا بمكة وقتلوا أميرها (القُرطبي، صِلة تاريخ الطَّبري، ومسكويه، تجارب الأُمم)، وظل بعيداً عن مكانه حتى السَّنة (339هـ)، أي لمدة (22 سنةً). كان الغرض، على ما يبدو، منع العباسيين مِن فائدة الحَجِّ، لكّن النَّاس ظلوا يحجون مكانه الأول. وبعد فشل المحاولة وموت الأمير القرمطي الذي أخذه أعاده إخوانه، وبعذر يوهمنا بأنه كان أمراً مقدساً فرضه عليهم، جاء في رسالة ردَّه: «أنهم ردَّوا الحجر ممِن أخذوه بأمره ليَّتم مناسك النَّاس وحجَّهم» (نفسه).

كذلك كان الموسم يُستغل للنعرات الطَّائفية، ففي زمن الصَّفويين، أن أحد علماء الشِّيعة البارزين كتب إلى أصفهان، عندما كان السَّب جارياً على المنابر فيها، قبل أن يمنعه نادر شاه (اغتيل 1747م) ويفرض عليه عقوبة مشددة عليه: «إنكم تسبون المخالفين في أصفهان، ونحن نعاني مِن ذلك العذاب في الحرمين الشَّريفين» (التّنكابني، قصص العلماء).

أقول كم حوادث جسام شهدها الحَّجر الأسود، منها ما أرخه المؤرخون، وأظن أنها رؤوس أقلام لعظمة ما حصل، وعلى وجه الخصوص في مواسم الخلافات السِّياسية. هذا وكان الحج لا يستطيعه كلُّ أحد، بسبب بُعد الطَّريق واختراق الآفاق الشَّاسعة، أما اليوم فقد جعله النَّقل الجوي مكثفاً، بحاجة إلى تنقيته مِن كل ما تتركه السِّياسة مِن آثار جسام، لأنه عبادة أولاً، فإذا انعكس ما يجري بالمنطقة مِن اضطراب عليه أُفرغ مِن قصد شد الرِّحال إليه.

 

الآن - الاتحاد

تعليقات

اكتب تعليقك