مستغربا تساهل الدولة المثير للريبة .. د. محمد بن عصام السبيعي يسأل هل العلاج في الخارج وسيلة من وسائل شراء الذمم?

زاوية الكتاب

كتب 652 مشاهدات 0


 

 

دولة... تحت التصفية!
 

د. محمد بن عصام السبيعي

لا أود أن ينصرف ذهن القارئ هنا إلى أبعد من التصفية بالمفهوم المالي. فان تكون أبعاد هدر المال العام لهذه الدولة قد تعدت كل حدود فمثل هذا لا تخطؤه عين ولا ينكره إلا مكابر, قاص كان أم دان. ومن يجد صعوبة في الأخذ بهذا الرأي عليه فقط أن يتأمل أرقام ميزانيات الدولة للسنين القليلة المنصرمة, ومقابلة ذلك بما تمخضت عنه, إن كانت قد تمخضت عن شيء. على أن ما يدعوني الى استخدام مفهوم التصفية هنا عوضا عن مقطع الفساد الأكثر رواجا بين دارسي النظم السياسية المقارنة فهو لأن ما نحن بصدده من أمثلة للهدر لا تجري عليها مكونات تعريف الفساد من مخالفة موظف القطاع العام للقانون بقصد التكسب مثلا, أو عدم مراعاة آخر للوائح الموضوعة بما هو مقصود من أمانة في أداء العمل. فما نحن بصدده أمر غير معروف في آلية عمل الوحدات السياسية الأخرى, وخصوصا تلك التي تشابه هذه الدولة في ندرة مواردها المالية واعتمادها على مورد واحد ووحيد, نادر, ناضب وغير متجدد. فهذه الدولة تنفرد بسن كل قانون من شأنه المبالغة في بنود إنفاق المال العام, كما تتفنن لوائحها التنظيمية في كيفية مضاعفة الجرعة المستحوذ عليها من مقدرات الدولة, وهو الأمر الذي يخرج المسألة برمتها, أي دواعي صنع القانون وعواقب تنفيذه, عن كل سياق معقول ويبعدها كل البعد عن تحقيق المصلحة العليا للدولة. وسأتناول هذه الفرضية في ضوء نموذجين.
النموذج الأول يتناول واقعا غريبا لا يستقيم وآلية عمل الدولة العصرية ناهيك عن خصال دولة الرفاه. والمقصود هنا اعتياد حكومة هذا البلد إرسال المرضى من مواطنيها إلى أكثر مستشفيات العالم تكلفة بقصد تطبيبهم. وليس في الوصف بالغرابة هنا أي مبالغة. فهي غريبة بتفاقم أعداد المستفيدين من الخدمة, وهي غريبة كذلك بالنظر إلى تساهل الدولة المثير للريبة أمام استغلال تلك الخدمة من غير المرضى, ويزداد الأمر غرابة نظرا الى اغراق المريض أو مدعي المرض ومرافقيهم بمخصصات مالية تغري كل رخيص نفس بادعاء المرض. فإلى جانب ضمان تفرغ المريض ومرافقه من أعمالهما, مع استمرار دفع مرتباتهما طبعا, وتوفير تذاكر السفر والتكفل بتكاليف العلاج فإنه يصرف للاثنين في مدينة مثل العاصمة البريطانية ما لا يقل عن 2000 دينار كويتي شهريا. كل هذا مع أن المرء يجزم في القول أنك لو سألت مريضا يسعى حقا في براء علته عن حاجة له لما سألك أكثر من تفرغ من عمله وحمل تكاليف علاجه عن كاهله. أما تنقله وسكناه ومعاشه فسيتولى تكاليفها بنفسه من دخله الخاص. أجل, لا أظن أن مريضا يبحث عن شفاء له يطمع في أكثر من ذلك. لذلك لا غرابة أن يقود توفير تلك المخصصات التي يسيل لها اللعاب إلى تهافت الكثيرين في سبيل الاستفادة من تلك الخدمة أو إساءة استخدامها. ومثل ذلك يمكن تلمسه من تطور ميزانية الحكومة لأغراض العلاج في الخارج للسنوات القليلة الماضية, والتي تضاعفت بين عامي 2006و 2009 بمعدلات تثير الذهول. ففي حين بلغت الميزانية للعام 2005/2006  ¯ 28 مليون. فلم يحل العام 2008/2009 حتى تجاوزت المليار دينار أي بأضعاف مضاعفة تفوق 3500 في المئة. أما المرضى ومرافقيهم الذين يجوبون ديار العالم فيقدرون بعشرات الآلاف سنويا, مع ما يعنيه ذلك لهم وللإدارات المشرفة وكذلك للدول المضيفة من متاعب. ولذا فإن إزاء مثل هذه الأرقام الهائلة, التي لولا مراعاة مشاعر المرضى لقلنا بلا تحفظ أنها تذهب هباء, فإن المرء يعجب من إصرار حكومات هذا البلد المتعاقبة في المضي في طريق الهدر غير المحدود, وعدم استثمار كسر بسيط من تلك الأموال في البنية التحتية للقطاع الصحي لهذا البلد, أو على الأقل استقدام الفرق الطبية الفائقة ما دام أطباء الكويت يعجزون, أو لا يفرغون لتطبيب مواطنيهم.ولا داعي هنا للإفاضة في بدهية أن مثل ذلك يعمل على بتحقيق وفورات هائلة في المال العام, وكفيل أيضا بإراحة المريض ذاته من كثير من أوصاب السفر والتعقيدات التي تلم به خارج بلاده, ناهيك عن التقليل من معاناته النفسية وذلك حين يكون على مقربة من ذويه وأقربائه. أما إذا لم يمكن مثل هذا أو ذاك في متناول دولة من أغناها على مستوى العالم فليس أقل من تمثل الفطرة وقصر مزايا الابتعاث على التفرغ من العمل وحمل تكاليف العلاج. وغني عن القول هنا أن مثل هذا المطلب المعقول سيوفر الكثير من الموارد لتوسعة شريحة المستفيدين من هذا النوع العناية الطبية.
لكن مقابل الحساسية التي تكتنف نموذج الابتعاث للعلاج في الخارج فلا يزال لدينا نموذج آخر يخلو من تلك الحساسية الأمر الذي يمكن المناقشة بلا تحفظ. والمقصود هنا هي المخصصات المالية لموظفي الدولة في المهمات الرسمية وما شابهها إلى خارج البلاد. وكما هو مقتضى الأمر فإن جهات الدولة المعنية بهذا النوع من الإنفاق لا تنحصر في عدد محدود يتولى عملية الابتعاث كما هي حال النموذج الأول, بل يشمل كل مؤسسات الدولة. كما أن قائمة المستفيدين لا تقتصر هنا على المرضى أو من يلبس لبوسهم ومرافقيهم, بل ينصرف نظريا إلى كل مستخدمي الجهاز الحكومي. معنى ذلك أننا نقف أمام وجبة عملاقة من المال العام يتحلق حولها جمهور غفير متوثب. ومما يثير الطمع في تلك الوجبة سخاء لا مثيل له في رصد تلك المخصصات. فهي تبدأ من 220 دينارا. يوميا لشاغلي الوظائف دون القيادية وذلك حتى 350 دينارا. لشاغلي مراتب الوزراء وذلك كما هو في قرار مجلس الخدمة المدنية في عام 2008 وحتى يتسنى للمرء استيعاب درجة المبالغة في احتساب تلك المخصصات لنا أن نتوقف عند أقصر مهمة رسمية لموظف من دون صف القياديين. فمهمة من يوم واحد مع احتساب يوم للسفر وآخر للعودة تؤتي مردودا يبلغ 660 دينارا, أي ما يعادل مرتب موظف على الدرجة الرابعة وذلك لشهر تام. هذا طبعا مع بقاء راتب المستفيد من المهمة من دون مساس مع أن المهمة ذاتها جزء من عمل الموظف. مثل هذه المبالغ غير معقولة حقا, ومزية كهذه تسيل لعاب أكثر الموظفين نفورا من العمل. فأفخم فنادق العالم لا تطلب أكثر من مئة دينار وربما أقل لليلة الواحدة, هذا مع أنه لا يطلب من ممثل الدولة أن يسكن أغلى الفنادق, ولا يفترض في الحكومة أن تكون عونا له في هدر المال العام أو ماله الخاص. وإذا اتفقنا أن سكن المبتعث بما يعادل مئة دينار في الليلة فهل يعقل أن يكلف مأكله ومشربه مئة دينار يوميا? مثل هذا مبالغ فيه وغير معقول حقا, وأشك أن يكون لمثل هذا مثيل بين حكومات العالم. وهل للمرء بعد هذا أن يستغرب تكالب الموظفين ومسؤوليهم على المهمات الرسمية? وهل بعد هذا استغراب أن تكشف وفود هذا البلد رغم كثرة مشاركتها في الفعاليات الدولية وكثافة أعداد أفرادها عن قلة فاعلية في الذود عن مصالح هذا البلد واستمرار اعتمادها على الخبير الأجنبي? ولم العجب فالدافع إلى المشاركة الخارجية لم يعد ما يراه الموظف في نفسه من كفاية لخدمة جهة عمله ووطنه رغم ما يتطلبه ذلك من إيثار للتعب على الراحة والغياب عن الأهل والولد, بل أضحى مزايا مالية صافية جعلت من تمثيل الدولة في الخارج واجهة لتمضية إجازة مع الأسرة. ومثل تلك المزايا أيضا كفيلة لأحدهم لو توفر له ما يكفي من الحظ والحصول على حصة ثابتة من هذه المهمات أن يشق طريقه سريعا إلى الثراء.
كان ذينك مثالين لهدر المال العالم الذي يخرج عن كل إطار معقول. وهما بتأمل ما يترتب عليهما من نتائج يمثلان خسارة صافية, ليس فقط للمال العالم, بل لعملية البناء الوطني بأسره. ولك أن تقيس على هذا المنوال أمور أخرى. لكن أوجه الهدر المشار إليها وغيرها موضوعة على بنود الميزانية منذ عقود, بل وتزداد مع مرور الوقت سخاء في احتساب الأموال الموضوعة للتصرف. لذا فإن السؤال الذي لم يطرح بعد يحوم حول من يقف خلف مثل تلك القوانين. ومن يمسك بالمغزل ليحيك ما يسوغ الاستيلاء على المال العام من دون وجل من مساءلة? أتراها قد وضعها بعضهم لتمويل رحلاتهم, هم ومن معهم, كلما شاءوا من المال العام? أو تراها وسيلة مجربة ومضمونة لشراء الذمم? هذا فصل من الفصول الثقيلة للتاريخ الحديث لهذا البلد. وأكاد أقول أثقلها, إذ هو يتجاوز طور الفساد إلى آخر أشبه... بالتصفية الذاتية!

السياسة

تعليقات

اكتب تعليقك