' فرد ' صنع دولة (3 - 1)

الاقتصاد الآن

استورد الرمل والحجارة، وحول الخيال لواقع

4407 مشاهدات 0


كل البشر يحلمون، وقليل من أحلامهم ما يتحقق على الواقع، وكل البشر يفكرون، وقليل منهم مايترجم أفكاره إلى شيء ملموس، فما بالنا إن رأينا تجربة فريدة من نوعها اجتمع بها الحلم والفكر والقرار والعمل بشخص واحد، كون فريقا وتقلب على كل الظروف وحول مشروعه إلى واقع أصبح مضربا للمثل حين نقل بلاده من العالم الثالث إلى الأول في ظرف عقود قليلة، فتاعلوا نتعرف على هذه الشخصية التي أطلق عليه 'الزعيم الأسطوري'، و 'الديكتاتور الرشيد'.
نظرا للتاريخ الطويل للسيد ( لي كوان يو ) باني سنغافورة الحديثة، سنقسم هذا التقرير الطويل إلى 3 أجزاء، سننشرها تباعا في .

مستعمرة بريطانية

سنة 1819 اشترى البريطاني ستافورد رافلس لحساب شركة الهند الشرقية جزيرة سنغافورة وبنى فيها مدينة وأشرف على تنظيمها و كانت الجزيرة تشكو من نقص في السكان ولكنها تمثل موقعا استراتيجيا هاما، عرفت المدينة بعد ذلك هجرة صينية كبيرة، وأصبحت سنغافورة في بضع سنين المركز الاستعماري البريطاني في جنوب شرق آسيا، وما انفكت أهميتها تزداد إلى حدود بداية القرن العشرين حيث قررت بريطانيا إنشاء قاعدة عسكرية، أثناء الحرب العالمية الثانية احتل اليابانيون الجزيرة ما بين 1942-1945، بقيت سنغافورة مستعمرة إنجليزية إلى أن حصلت على استقلالها سنة 1959.
مساحة سنغافورة لا تتجاوز سبعمائة كيلومتر مربع وعدد سكانها يقدر حاليا بخمسة ملايين نسمة، بعد أن تدفق المهاجرون إليها وتعايشت الأديان والأجناس بكل أمان وسلام وعلى رأسهم البوذيون من أصل صيني –42%– والمسلمون 15% ومثلهم المسيحيون وبعض الهندوك والعرب من أصول حضرمية. 
سنغافورة خالية من كل الموارد الطبيعية الثمينة، وتستورد الرمال والحجر، وكانت تعتبر دولة متخلفة قبل عقود قليلة جداً من الزمن، ولم تبدأ مسيرتها التنموية بشكل جاد إلا في بداية السبعينيات الميلادية، الآن تعتبر سنغافورة في قائمة أكثر عشر دول في العالم من ناحية الاستقرار الاقتصادي ومن ناحية معدلات النمو، وهي محطة سياحية لملايين السياح في كل عام، كما أنها محطة تجاربة لا يستغني عنها كل من يفكر في شرق آسيا.

قدوم لي كوان يو 1959

قد يظن البعض ان الشعوب (باعتبارها مجموعة أشخاص تعيش على أرض محددة) وحدها تصنع تاريخ الدول، وقد يظن البعض الآخر أن اسم البلد يوضع على خريطة العالم الاقتصادية منذ اللحظة الاولى لولادته. غير ان لهذا الواقع استثناءات، ان لم نقل صورة مقابلة. فلطالما ولدت دول دون أن تؤثر على الاقتصاد العالمي ‘بشعرة’، ولطالما صنع فرد واحد تاريخ شعب ودولة معا. هذه الصورة المقابلة (أو الوجه الآخر في المرآة، ان صح التعبير) يجسدها لي كوان يو. هذا ‘الثمانيني’، الذي ارتبطت باسمه عبارة ‘مؤسس سنغافورة الحديثة وقائد التنمية الاقتصادية في بلاده’.
 
ولد لي كوان يو في 16 سبتمبر عام 1923، وأصبح أول رئيس وزراء للجمهورية السنغافورية في عام 1959 بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزب العمل الشعبي الذي أسسه عام ،1954 وبقي في منصبه، الذي تولاه في سن ال35 سنة، حتى عام ،1990 بدأ حياته شيوعيا متزمتا وأنهاها نموذجا تاريخيا في التنمية. لم يتنازل عن فاصلة واحدة من تراث بلاده الاجتماعي. فأثار ازمة سياسية كبرى مع الولايات المتحدة لأن مراهقا اميركيا لطخ نظافة المدينة بالدهان. لكن هذا التمسك بالمبادئ والميراث والعادات لم يتعارض لحظة واحدة مع استخدام الحداثة من اجل الكفاية والضمان الاجتماعي والتقدم والنمو. وكانت النتيجة سنغافورة المعاصرة التي ارتبط اسمها باسم لي كوان يو ‘الديكتاتور الرشيد’.

الباني وطنا للناس

 كان من المذهل اقامة مثل سنغافورة الحالية في فقر آسيا قبل اربعة عقود، غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الى المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطنا للناس وليس له. لذلك بنى المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الى الاذاعة. ومنع التجمع الا للصلاة. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجا مناقضا لكتاب ماو تسي تونغ وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدى الجارة الاندونيسية بالتسرب الى بلاده. وطبق حكم القانون، لكنه لم يحول بلاده الى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما.
 
ويعتبر لي كوان يو خليطا سحريا من أداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل أي شيء حريصا على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ اميركا. وجعل لكل مواطن بيتا بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ. اذ كانت تلك الجزيرة، التي أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819، مجرد قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين والباقي من ماليزيا والهند مع أقليات آسيوية أخرى. وبعد أن رحل المستعمرون من منطقة جنوب شرق آسيا خلفوا وراءهم فوضى عارمة، فكان على سنغافورة أن تواجه وحدها مخاطر التمدد الشيوعي في جميع أرجاء العالم، خصوصا أنها دولة فقيرة قريبة من الدب الروسي. ولم تجد سنغافورة حلا لهذه المعضلة سوى الانضمام إلى اتحاد الملايو عام 1963 الذي يشكل ما يعرف الآن بماليزيا. الا ان هذا الاندماج لم يصمد أكثر من عامين بسبب إصرار سكان الملايو المسلمين على احتواء سنغافورة من دون مراعاة وجود الغالبية الصينية البوذية فيها. وبعد أقل من عام على الانضمام، حدثت صدامات عرقية بين الصينيين والملاويين كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائيا من اتحاد الملايو في 9 أغسطس 1965 وهو نفسه تاريخ استقلال سنغافورة.

الوحدة والتحدي

يقول لي كوان يو في كتاب سيرته الذاتية عن تلك المرحلة: ‘بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار، فنسبة البطالة تقارب 15% والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء: القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، البنية التحتية متخلفة للغاية، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة الملايو’.
 
وكانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من أشد الأولويات التي فرضت نفسها على حكومة لي كوان يو. وعزز وجود بعض القوات البريطانية الرمزية في سنغافورة روح التفاؤل بالقدرة على الصمود في تلك الرحلة الحرجة. ولكن ما لبثت بريطانيا أن أعلنت عن نيتها سحب جميع قواتها من المنطقة بعد تراجع دورها في العالم تدريجيا. فخسرت سنغافورة الكثير بسبب هذا القرار لأن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي، كما وجدت نفسها مضطرة إلى التعجيل في تنفيذ برامج التسليح المكلفة.

 

الآن: تقرير - صحف ووكالات

تعليقات

اكتب تعليقك