أسماء المدن العراقية.. التَّغييب ....يكتب راشد الخيون

زاوية الكتاب

كتب 305 مشاهدات 0


لم يكن خبر محاولة تبديل اسم بابل اجتهاداً شخصياً، أو نزوةَ أحد الجاهلين، بقدر ما أراها «جس نبض». فإذا مرَّت بلا ممانعة سيُنسخ اسم بابل إلى «الإمام الحسن»، مثلما سبق أن بُثت محاولة حذف اسم أبي نواس (ت195-198ه) مِن على شارع بغداد الشَّهير ليصبح «المهدي». مع علمنا أن انتهازيين، خلال الحرب الإيرانية- العراقية (1980-1988)، أشاروا لشطب اسم الشَّاعر وإزالة تمثاله، بعذر أنه فارسي مجوسي، مع أنه وقف مع الأمين (قُتل198)، وأمه كانت عربية، ضد جيش المأمون (ت218هـ) القادم مِن خراسان، وأن والده كان في الجيش المرواني، وأمه بصرية أهوازية، وكانت مُحسِنة على الأطفال، ولا صلة له بالفرس (طبقات الشُّعراء، تاريخ بغداد، تاريخ دمشق، وفيات الأعيان)، وعُرف مِن قِبل الأقدمين بشاعر العِراق.

سبق أن نجحوا بإطلاق اسم الصّدر على مدينة الثَّورة، وقبلها «صدام»، مع أن الاسمين لم يُطلقا بمبادرة رسمية، إنما بإعلان انتهازيين مِن المنطقة نفسها، فاعتمدا رسمياً، وربَّما الذي طلب قلب «الثَّورة» إلى «صدام» بادر نفسه في قلبها إلى «الصَّدر»، ومعلوم أن لا صدام ولا الصَّدر لهما فضل بتأسيسها والسَّهر على تشييدها، فالذي أسسها عبد الكريم قاسم (قُتل 1963) رافضاً مجاراة الانتهازيين عندما تقدموا لتسميتها باسمه، كذلك لم يسعَ عبد السَّلام عارف (قُتل 1966) بإطلاق اسمه عليها، ولما أراد محو فضل غريمه (عبد الكريم)، في نشأتها، جعلها باسم «حيّ الرَّافدين»، لكنَّ اسمها الأصلي غلب عليها، وظلت «الثَّورة».

تشير حكاية تبديل أسماء الأمكنة إلى تغييب التَّاريخ وتزويره، عبر الأسماء، وإلا كيف لعراقي يفكر، ولو مِن باب الهزل، بحذف اسمٍ مثل «بابل». صحيح أن النظام السابق، وفي بداياته، بدل اسم «الحلة» إلى بابل، لكن ليس معنى هذا أن كلَّ ما فعله السابقون كان خطأً ويحتاج إلى تعديل، على العكس أن إطلاق اسم «بابل» على أرض شهدت وجود الحضارة البابلية، كان مِن الحسنات. فليس أشهر مِن مفردة «بابل» (باب الله) بالدُّنيا، مثلما ليس أشهر مِن «بغداد». مع الإشارة، ليس مِن صلة للإمام الحسن (ت50هـ) ببابل، فالرَّجل عاش مع والده بالكوفة ثم نزل المدائن، وبعدها عاد إلى الحجاز.

مثلما لا علاقة لشارع «أبو نواس» باسم «المهدي»؟ إلا لفرض حالة التدين المنفلت العقال، حتى لا يكون اسم مدينة ولا شارع ولا قاعة دراسية في الجامعات إلا باسم إمام أو (مجاهد)، وكأن ليس هناك حياة ولا وجود إلا لهذه الأسماء. بطبيعة الحال، في الزَّمن السَّابق إذا سُميَّ شارع أو حيٍّ باسم أقطاب أيديولوجية، والسُّلطة سُلطتهم، فليس بمستطاع أحد الاعتراض، لكن في عهد الدِّيموقراطية يجري تكريسها عبر موجة التديُّن الأعمَّى، فإذا نجحوا مع شارع «أبو نواس»، و«بابل» سيأتي الدَّور على بغداد، ولا أستبعد أن إهمال شارع الرَّشيد له صلة باسم الشَّارع، وإلا هل مِن المعقول أن شريان بغداد التَّاريخي يتحول إلى مكب للنفايات؟!

للأسف، أن البلدانيين والإخباريين كرسوا معانٍ للمدن على خلاف حقيقتها العراقية، فبأي حق يكون اسم «بغداد» فارسي الأصل والمعنى (اسم صنم وصاحبه)، مع أنه اسم آرامي عراقي قديم، شأنه شأن «أربيل» (أربلو). هنا نقتبس مِن أبرز المختصين بلغات العراق يوسف متى قوزي، الذي يعود له الفضل بترجمة كتاب الصَّابئة المندائيين المقدس «كنزاربا» مِن الآرامية الشَّرقية إلى العربية (1998).

يقول في محاضرة له ببغداد (بعد 2003): إن كلمة بغداد «تتألف من مفردتين آراميتين «باغ» تعني بيت، و«داد» خيط أو غنم أو نسيج، فالاسم إما «بيت الخيط» أو«بيت الغنم»، ويعطي قوزي احتمال آخر، أن «باغ» بمعنى (جنينة، بحر، بَطيحة، سعد). بعدها يأتي بمعانٍ أُخر متقاربة المعاني لبغداد، ليس بينها مفردة فارسية. نقول هذا، كي نستبق مَن قد يقوده التَّمكن، مِن عقول النَّاس، فيُصبح أهل بغداد، في يوم مِن الأيام، وعاصمتهم تحمل اسم آخر!

لم يُقتصر الأمر على تزوير أسماء مدننا، بل اسم العِراق نفسه، اعتُبر لفظة فارسية، وهو الـ«مشتق من كلمة تعني المستوطن، ولفظها أوروك... وأن أول استعمال لكلمة عراق ورد في العهد الكيشي... وجاء فيها اسم إقليم على هيئة إيريقا» (الآلوسي عن آخرين، اسم العراق). الحذر الحذر مِن تصفية العراق، كبلاد وحضارة إنسانية، وأرى البداية بتزوير أسماء مدنه. أقول: عضوا على وجوده بالنَّواجذ، لمواجهة تغييب كامل باسم الدِّين والمذهب والقومية وقصباته، ولأحد أبنائه النَّجفي محمد باقر الشِّبيبي (ت1960): «أما العراق فإن في تاريخه/ شرفاً يضيء كما يضيء الفرقد». ليس كلُّ تاريخه عنفاً ودماء وهواناً، ولا أعدُّها عاطفة شاعر، إنما الحقُّ بعينه.

الآن - الاتحاد الاماراتية

تعليقات

اكتب تعليقك