علي الظفيري مخاطبا السجين الوسمي:

زاوية الكتاب

قرر أن يواجه الخطأ بقلبه ولسانه فكان له ما أراد

كتب 8659 مشاهدات 0

الظفيري والوسمي

إلى السجين عبيد الوسمي


علي الظفيري 

أيها الأسمر النحيل. يا متخماً بالشجاعة. أخبرنا بربّ قلبك الجميل وروحك الطاهرة: كيف استطاعت الهراوات الخائفة أن تصمد في وجه عينيك المتقدتين!. واليد التي ارتجفت في حملها. كيف جاوزت حمولتها الثقيلة من الجُبْن المركب. واستطاعت أن تمتد لجسدك الناحل بشموخ!. كيف لتلك العصي الواهنة أن احتملت ضربات وعيك المتفجر غضبا وشموخا وكرامة!
 
أعرفك. وجيدا كما أظن. فقد احمر ناظرك. وهذا فعل جينيّ كامل وصحيح. لا تتسرب إليه عوامل التعرية في هذا الزمن الرديء. ولا أفعال النقص الطارئة. في كل زاوية من قلبك الكبير هناك طوب وطني. تتوزع أحجارك الوطنية أيها الكبير بألوانها الزاهية. خضراء حمراء وبيضاء. وتزول حجارتهم السوداء. الجاهلة والفاجرة والمعمَّمة بكل حقدٍ جبان. يأبى ظلامهم الصمود أمام وطنك. وطنك أنت. والذي لا يليق سوى بك. وطن النهار كما كنت تظن. وكما كنت تحن دائما!

من سجننا الكبير نرقبك. نتأمل غليان دمك. نسأل بعضنا: كيف لهذا الحرّ النبيل. أن يحيل زنزانته الضيقة لمدى من الاتساع. وأن تستحيل قذاراتها -برباطة جأشه- لمربع من الطهارة. يستنهض الوحي بهمة لا تكلّ. كيف لنورك الصغير أن يشعّ من حبسك إلى عتمتنا التي لا تنجلي. ويقرِّع غيابنا الذي لا يريد الحضور. وخوفنا المزروع في المفاصل. وحزننا -لا عليك- بل على حالنا الذي أحقُّ بالبكاء والعويل! ثمة ما يشي أيها النبيل بزمن أسمر. فملامحك الحادة الوضوح. تتفشى فينا شيئا فشيئا. وما على مناعاتنا سوى التواضع قليلا. وتشرّيع الأبواب لهوائك العليل!

في المرة الأولى التي التقيت فيها السجين عبيد الوسمي. كان يحمل دستور البلاد معه. الكتيب الصغير كان عنوانه الوحيد. تعريفه الذي لا يحيد عنه قيد أنملة. خارطة حقوقٍ للوطن المتخيل في ذهن هذا الدستوري الخبير. كان يقول: هنا -في هذا المجلد الصغير- روح البلاد التي لا نعرف سواها. والطريق الذي لا نملّ المسير فيه. وصدقا. لم يتوقف أستاذ القانون الإجرائي عن السير في هذا الطريق. كان حاضرا في كل مشهد. وكنت من بعيد أرقب نشاطه الهادر في الندوات والمحاضرات العامة. وكلما دققت النظر في وجهه. كان دستور البلاد التي أحببناها سوية. يطل من عينيه الثاقبتين. وكان يقول: بمثل هؤلاء تكتسب الحقوق. لا بغيرهم.

أكثر ما يبعث على الإحباط هذه الأيام هو غياب الاهتمام بالشأن العام. انشغل كثير من الناس بقضاياهم الخاصة. وبات الصراع على لقمة العيش -المختلفة في الخليج عن غيرها- هو الغالب على النخب المثقفة. فقلما تجد أستاذا جامعيا أو مهنيا رفيعا يلج في المناطق السوداء. وما حاجته لذلك طالما يتنعم بالزائل من النعم!. وطالما أن شيئا من فائض الثروة يتناثر هنا وهناك. وثمة مقعد في آخر الصف للمثقف الرسمي البائس!. بتنا مجرد طوابير لا قيمة لها. تتشابه الرؤوس المنتشرة في كل المقاعد. حتى أنك لا تفرق بين المقعد والمقعد الذي يليه. ومن هنا يكون للفعل المثقف الواعي الثائر والغاضب قيمته الكبرى. قيمته التي لا تتكشف لنا بشكل مباشر. كفعل أولئك الرموز الذين شذوا عن الطوابير في سابق الأيام. وكفعل هذا السجين الذي اختار زنزانته المظلمة الكئيبة. بديلا لمقعد جامعي وثير. لا يملك صاحبه من أمره شيئا!

كان الدكتور عبيد الوسمي أستاذا جامعيا مرموقا في بلاده. وخبيرا قانونيا لا يشق له غبار. لكنه لم يقبل ذلك. واجه العصي والأيادي التي لا تعرف سوى العنف لغة. لم يقبل بالراتب والمكانة الاجتماعية الزائفة. ومنصب منتظر يفني الإنسان عمره بانتظاره. قرر أن يواجه الخطأ. بقليه ولسانه. فكان له ما أراد. أصبح السجينُ اليوم أكبر وأكبر وأكبر.

الآن - العرب القطرية- مقال يفرض نفسه

تعليقات

اكتب تعليقك